بالدموع، اضطُر علي شعث لإخراج حيواناته من قطاع غزة أواسط آب/ أغسطس الماضي، إلى أدغال أفريقيا لإنقاذها من موت بطيء في غزة، التي عُدت "أسوء مكان للعيش"، ولم يمكث كثيرًا، بعد ذلك، فخرج إلى مصر، بعد انتظار قارب العام، لأجل السفر من منفذ رفح البري الرابط بين قطاع غزة ومصر شحيح الفتح، كثير الإغلاق.
قطاع غزة بات اليوم يلفظ شبابه، بحثًا عن حياة أخرى بعيدًا عن الحصار الإسرائيلي ولجج الخرائب، والحروب
وكأنّ قدر الفلسطينيّ أن يظلّ في رحلة لجوء فردية، بعد عقود على التهجير الذي نفّذته العصابات الصهيونيّة، خلال احتلال فلسطين، فقطاع غزة الذي استقبل اللاجئين في أزمان مختلفة، بات اليوم يلفظ شبابه، بحثًا عن حياة أخرى بعيدًا عن الحصار الإسرائيلي ولجج الخرائب، والحروب.
مُسبقًا، كان عليّ اتخذ قرارًا بالهجرة إلى أوروبا، رغم أنّه خرج إلى القاهرة أملًا بالحصول على منحه تعليمية، ولكنّه فشل في ذلك، ومكث 60 يومًا منتظرًا أن يحظى بمنحه دراسية أخرى، دون فائدة. بعد ذلك قرر الإقلاع إلى اسطنبول في تركيا، إلى أن وصل به المطاف إلى مخيم للاجئين أقامه الصليب الأحمر، جنوب بلجيكا.
اقرأ/ي أيضًا: "حنتور" غزة.. لأنهم يحبون الحياة
علي الذي احتفل بعيد ميلاده في وسط أوروبا على غير ما كان يتوقع حتى في أسعد أحلامه، استمتع وعيونه بجمال البرد مع سحر العمران في تركيا مدة 10 أيام، ثم انتقل إلى اليونان بحرًا في رحلة أشبه "بمغامرة ينقصها الموت" حسب تعبيره.
يروي لـ "الترا فلسطين" أنّه حاول ولستِّ مرّات دخول اليونان عبر خليج "ديكيلي" التركي، ولكنّه لم ينجح، بسبب توقيف مركب الهجرة الخاصة بالمجموعة التي كان فيها، مشيرًا إلى أنّه استلف مبلغًا من المال، ودفع للمُهرّب 500 دولار أمريكيّ.
في المحاولة السابعة، تمكّن من الوصول إلى جزيرة "ليسبوس" اليونانية القريبة من تركيا، رغم أنّ عطبًا أصاب محرّك القارب
في المحاولة السابعة، تمكّن علي شعث من الوصول إلى جزيرة "ليسبوس" اليونانية القريبة من تركيا عبر بحر ايجه، وكان العطب الذي أصاب محرّك القارب هو السبب في تمكّنهم من الوصول، فالقارب الصغير الذي كان ينقل حمولة ضِعف المسموح بها، عانى عطبًا ذاتيًا ما جعل سرعته غير ظاهرة لخفر السواحل التركي.
وعلى بُعد مئات الأمتار من سواحل الجزيرة اليونانيّة، كانت سفينة للصليب الأحمر، تلتقطهم من المياه، يتحدّث علي لـ "الترا فلسطين" وقد علت وجهه ابتسامة، وهو يستذكر أيّامه الماضية.
اقرأ/ي أيضًا: إمبراطورية تجارة الأعضاء.. إسرائيل وراء كلّ هذا!
بعد ذلك، وصل الشابّ الغزيّ الذي أنهى دراسة العلوم الإدارية وعمل في عدة مؤسسات بقطاع غزة على بند البطالة، إلى مدينة متليني عاصمة جزيرة ليسبوس ومعه 400 يورو، من أصل ألفي دولار اقترضها من شقيقه في غزة، ومكث في الجزيرة 45 يومًا، حتى حصل على إقامة مؤقتة تسمح له بالتحرك بحريّة في أرجاء اليونان.
في العاصمة أثينا، استأجر عليّ بيتًا بمبلغ يوميّ قدره 15 يورو، وانتظر نحو أسبوع كي يعثُر على مُهرِّب آخر، ليواصل طريقه. تعرّف بعد ذلك على (سامر)، وهو بالطبع اسم مستعار لأحد أبرز المهرِّبين إلى أوروبا من اليونان، والذي أخبره بدوره أنّه يمكنه أن يُهاجر بالطائرة، نظرًا لملامحه القريبة من الأوروبيين، وكان على عليّ أن ينتظر أربعة أيام حتى يوفِّر له "المُهرّب" جواز سفر فرنسي مزوّر كلّفه مبلغ 2500 يورو، اضطر لاستدانتها مرّة أخرى من عائلته، ووصلته عبر حوالة ماليّة.
ذهب علي إلى المطار، برفقة المُهرّب الذي حجز له رحلة على الخطوط الجوية اليونانية، والوجهة إلى بروكسل، عاصمة بلجيكا، باعتبارها أفضل الدول حاليًا في إعطاء حق الإقامة للفلسطينيين حسب ما سمع علي من آخرين وصلوا هُناك.
يقول علي "لقد كنت على بعد خطوة من حلمي، قبل أن يكتشف ضابط الأمن جواز سفري المزوّر، إنّها من أصعب لحظات حياتي قسوة"، لكن ذلك لم يمنعه من الإشادة بالضابط اليوناني الذي لم يحتجزه وأطلق سراحه، بعد أن علم أنه فلسطيني من قطاع غزة، وقال له "اذهب ولا تكررها".
انتظر عليّ أسبوعًا آخر حتى نجحت نفس المحاولة بجواز فرنسي مزوّر أيضاً لكنّ الوجهةَ كانت باريس هذه المرّة، وبعد أن وصلها هاتف أهله ليطمئنهم، وزار برج إيفل، ثم غادر إلى بروكسل عبر القطار. حيث يتواجد منذ سبعة أشهر في جنوب بلجيكا، بانتظار إقرار إقامته.
ويحاول علي التأقلم في بلجيكا، بتعلم اللغة الفرنسيّة، وينتظر لإكمال دراسته العليا، ريثما تتوفّر له الفرصة والمكان المناسب، ويقول إنّه قد يعود لغزة بعد أن يحصل على الجنسيّة البلجيكيّة.
الشاب محمود العقاد من خانيونس، خرج هو الأخر من غزة إلى مصر، قبل نحو 8 سنوات، ومنها توجّه إلى ماليزيا، ثم تركيا، فاليونان، يقول لـ "الترا فلسطين" إنّه سار لمسافة 260 كيلومترًا، على مدار 8 أيام، انطلاقًا من مدينة سلونيك شمال اليونان. ويشير إلى أنّه مرّ ببلجيكا ومقدونيا وصربيا والمجر والنمسا وألمانيا.. "لقد صبرت في غزة بما فيه الكفاية، الآن سوف أصبر هنا بكل أمل".
محمود قال إنّه لم يشهد كل حروب غزة، لكنّه خاض حربه الضروس للوصول إلى الوجهة التي أرادها
أمّا محمود، (32 عامًا)، الذي يقيم داخل مخيم للاجئين شمال بلجيكا في مدينة "انتوربين"، فيقول لـ "الترا فلسطين"، إنّه اختار هذه المدينة لأن العمل في الجانب الفلاماني (الشطر الهولندي شمال بلجيكا) التي تتحدث الهولندية والفرنسية، كونها الأفضل من ناحية العمل، مبيّنًا أنّه ينتظر الإقامة كي يُصبح محمودًا لنفسه ولمن خلفه، كما يقول. ويتحدّث عن أنّه لم يشهد كل الحروب في غزة، لكنّه خاض حربه الضروس حتى وصل إلى هذا المكان.
أحد مسؤولي التمثيلية الفلسطينية في بلجيكا، تحدّث لـ "الترا فلسطين" مشترطًا عدم ذكر اسمه، كونه غير مصرّح له بالحديث، قال إنّ عدد طالبي اللجوء في بلجيكا بلغ قرابة الألفيّ شخص من فلسطين، غالبيتهم من فئة الشباب من قطاع غزة، ورجّح أن عدد الفلسطينيين في بلجيكا يقارب الـ8 آلاف شخص، بعضهم مقيم فيها منذ عشرات السنين.
اقرأ/ي أيضًا: