تدَّعي الدول الاستعمارية بأنها تستعمر البلدان الأخرى بهدف تنويرها وتطويرها، لكن حقيقة الأمر أن هذه الدول قامت على إحلال سكانها بدلًا من السكان الأصليين لتلك المناطق بالقتل والتهجير والإبادة، ليبقى البعض منهم في هجرة وتشريد مع ثقافة شعبه الضائعة، وتذكرة للأرض بوجوه أول ساكنيها.
وبعد سنوات من الضياع والمطالبة بالعدالة؛ خصصت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1994 يوم 9 آب/أغسطس من كل عام، ليكون "اليوم الدولي للشعوب الأصلية" أو "اليوم العالمي للسكان الأصليين"، وذلك لإحياء ذكرى تاريخهم والتأكيد على وجودهم، وسيكون الموضوع هذا العام هو "تنقل الشعوب الأصلية وهجرتها".
خصصت الجمعية العامة للأمم المتحدة تاريخ 9 آب/أغسطس من كل عام ليكون "اليوم الدولي للشعوب الأصيلة"
وتُعرّف الأمم المتحدة "السكان الأصليون" بأنهم المنحدرون من السكان الأوائل في بلدان كثيرة، وتختلف ثقافاتهم وأديانهم وأنماط تنظيمهم الاجتماعي والاقتصادي اختلافًا بارزًا، ويعيش كثيرون منهم في أكثر من 70 بلدًا تمتد من المناطق القطبية إلى الأمازون وأستراليا.
تُعتبر الشعوب الأصلية اليوم من أشد المجموعات حرمانًا بين الجماعات الأخرى، ويواجهون التمييز والاستغلال في حال اندماجهم في مجتمع قومي. أما الذين يبقون في أرضهم الأم، فيواجهون الطمس لثقافاتهم والتشرد المكاني عند المطالبة بأراضيهم لأغراض التنمية الوطنية.
يُقدر عدد السكان الأصليين في العالم بنحو 370 مليون نسمة يعيشون في 90 بلدًا، ولا يتجاوز هذا العدد الـ 5% من سكان العالم، ولكنه في المقابل يُشكل 15% من أفقر السكان، وهم يتحدثون بأغلب لغات العالم، ويمثلون 5 آلاف ثقافة مختلفة. ومن أبرز هذه الشعوب الأصلية التي تعرضت للإبادة أو التهجير:
كندا
يعيش في كندا حوالي 36 مليون نسمة، ويمثل السكان الأصليون فيها حوالي 4% من عدد سكانها ويعيشون في 2234 محمية متناثرة على امتداد كندا. وبسبب اجتياح الأوروبيين للعالم الجديد، أخذت أعدادهم في التقلص.
ويقول المؤرخون إنه قبل مجيء الأوروبيين كان "الأصليون" 40 مليون نسمة، والآن أصبح عددهم مليون ونصف المليون نسمة، بسبب حروب الإبادة التي أقامها الإنجليز والفرنسيون فور وصولهم لكندا القرون الماضية.
وبسبب مطالبتهم لحقوقهم، قدم رئيس الوزراء الكندي جاستنترودو، العام الماضي، اعتذارًا ضمنيًا لسكان بلاده الأصليين، وأعلن أن "احتقار واستغلال" حكومات بلاده للسكان الأصليين أثر بصورة دائمة على الكنديين، وصرح بأن كل فرد سيحصل على تعويض قدره 25 ألف دولار كندي.
فيما قالت وزيرة شؤون السكان الأصليين الكندية أنه سيتم دفع تعويضات تقدر بـ 600 مليون دولار للسكان الأصليين الذين حرموا من عائلاتهم في الصغر. وهذا الاتفاق يغطى جميع أطفال "الأمم الأولى" و"الإينويت (الأسكيمو)"، الذين أبعدوا عن ديارهم في ممارسات بدأت في الستينيات واستمرت حتى ثمانينيات القرن الماضي.
أمريكا
قام المستعمر الأوربي والإنجليزي بأبشع المجازر الجماعية في التاريخ عندما وصلوا إلى أمريكا عام 1492، حينما كان عدد سكانها الأصليين "الهنود الحمر" حوالي 12 مليون نسمة على الأقل، حتى وصل إلى ربع مليون فقط عام 1900.
لم تقتصر أعمال المستعمرين والأمريكيين الجدد على القتل والإبادة، بل شملت التهجير والعزل الإجباري والملاحقة، فضلًا عن هلاك الكثير من السكان الأصليين بالأوبئة التي حملها المستعمرون معهم من أوروبا.
وبعد سنوات من تطبيق السياسات القانونية التمييزية، استطاع السكان الأصليون إحداث تغييرات سياسية، واستعادة حقوقهم في بعض المجالات مثل التعليم، وملكية الأرض، والقانون، والحرية الدينيّة، والثقافة.
أستراليا
شهدت هذه القارة الجديدة تطهيرًا عرقيًا لسكانها الأصليين على يد المستعمر الإنجليزي منذ القرن الثامن عشر حتى بدايات القرن العشرين، وقد كان يبلغ عدد السكان الأصليين في أستراليا بين نصف مليون و750 ألفًا، لكن 50 ألف شخص منهم فقط هم من بقوا على قيد الحياة.
وفي عام 2009، خرجت بعض الوثائق التي أثبتت أن أعدادًا هائلة من السكان الأصليين ماتوا بفعل مرض الجدري الذي نشره الإنجليز عمدًا بينهم.
الأرجنتين
نشر المؤرخون الأوروبيون شائعة عن أرض الأرجنتين بوصفها أنها "بلا صاحب"، وأنها لم تكن مأهولة بالسكان قبل الغزو الإسباني والأوروبي لها، لكن في الحقيقة كان يسكنها حوالي ربع مليون وأشهرهم جماعة اسمها "كوم"، تعرضت للإبادة والطرد.
وفي القرن التاسع عشر، عملت الحكومة الأرجنتينية على تطبيق سياسةٍ لإخماد وإخضاع وطرد السكان الأصليين، وشنت حربًا مفتوحة عليهم أحدثت مجازر بشعة، وقد اعترفت الأرجنتين مؤخرًا ببعض هذه المذابح.
وبحسب الأرقام الرسمية الأرجنتينية، تضم جماعة "كوم" نحو 600 الف شخص يعيش معظمهم تحت خط الفقر، ويتركزون في المناطق الشمالية من البلاد.
جنوب أفريقيا
بدأت قصة معاناة جنوب أفريقيا الأمرين من استعمار الدول الأوروبية لها، منذ أن وصلها المستوطنون الهولنديون المعروفون باسم "البوير" أو "الأفريكانز" في منتصف القرن السابع عشر، حتى وصلها المستعمر الإنجليزي في القرن التاسع عشر، واحتل جنوب القارة السوداء بعد حروب شرسة.
"الأبارتهايد" بدأ من جنوب أفريقيا كعنوان لنظام الفصل العنصري الذي يُفضل الإنسان الأبيض على الأسود في جميع المجالات
وبعد نيل جنوب أفريقيا استقلالها في بداية القرن الماضي، ظهر ما عُرف بالـ"أبارتهايد"، وهو نظام الفصل العنصري الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 بهدف خلق إطار قانوني يُفضل الإنسان الأبيض على الأسود في جميع المجالات، حتى تم إلغاء النظام بين الأعوام 1990 - 1993 وأعقب ذلك انتخابات ديمقراطية عام 1994.
سيبيريا
تعرض السكان الأصليون في سيبيريا إلى سلسلة من مجازر على يد الروس، منذ القرن السابع عشر، وقد قاوم السكان القوات الروسية وحاولوا الثورة على الاستعمار، لكنهم تعرضوا إلى مذابح جماعية وتهجير جعلت عددهم يتقلص من 150 ألف إلى حوالي 10 آلاف شخص.
وفي منتصف القرن الثامن عشر؛ انتصر السكان المحليون في معركة على الروس، وعلى أثرها أصدرت الإمبراطورة الروسية أمرًا بشن حرب أخيرة لطرد أكبر قبيلتين من أرضهما بشكل كامل ومحو ثقافتهما من المنطقة.
وبعد قرن من الزمن، سجل التاريخ جريمة جديدة بشعة للروس، حينما قرر إمبراطور روسيا انتزاع مسلمي القوقاز من على ساحل البحر الأسود، في مذبحة قتلت أكثر من مليون شخص وقضت على 90% من سكانها.
فلسطين
رأت فلسطين أبشع المجازر والتطهير العرقي في القرن الـ 20 حتى هذه اللحظة؛ في احتلال "إسرائيلي" بدأ منذ 70 سنة في عام 1948، وسبقه انتداب بريطاني استمر لسنوات. اعتمد الاحتلال سياسة الإحلال بسكان يهود أوروبيين بدلًا من السكان الأصليين في فلسطين رافعين شعار "أرض بلا شعب، وشعب بلا أرض".
نسبة اليهود إلى السكان الأصليين في فلسطين بلغت 8% فقط عام 1914، ثم أصبحت 11.1% بعد 8 سنوات
بينت الدراسات التحول الذي أصاب المجموعات السكانية على أرض فلسطين التاريخية قبل إعلان دولة "إسرائيل" عام 1948 وبعده، فلم تكن تتعدى نسبة اليهود 8% من إجمالي سكان فلسطين عام 1914 - حسب تقدير الدولة العثمانية - آنذاك. ولكن في عام 1922 مثل اليهود نسبة 11.1% من إجمالي السكان، ثم بدأت أعداد اليهود بالتزايد في فترة الانتداب البريطاني بسبب موجات الهجرة المنظمة والإبادة، إلى أن وصلت عشية إعلان قيام "دولة إسرائيل" إلى 31%.
وتظهر إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن ما يقارب الـ 800 ألف فلسطيني من أصل 1.4 مليون نسمة كانوا يقيمون في الأراضي المحتلة عام 1948، وهجّروا من قراهم ومدنهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزة وتشتتوا في الدول العربية المجاورة، هذا إضافة إلى آلاف آخرين تم تشريدهم لكنهم بقوا داخل حدود الأراضي المحتلة.
وما يثبت عدم صحة الرواية الإسرائيلية في عدم وجود سكان أصليين في فلسطين، هو وجود نحو 13 مليون فلسطيني أكثر من نصفهم يقيمون داخل فلسطين، ويتوقع أن يزيد عددهم عن عدد اليهود في فلسطين خلال الأعوام القليلة القادمة.
التراث الفلسطيني شاهد حي
يمثل التراث الفلسطيني الهوية والمخزون التاريخي لهذا الشعب الأصلي عبر العصور والأجيال، كونه تراث غني جدًا، يزخر بالأغنيات والمواويل الفلسطينية والأمثال والعادات والحرف اليدوية والأكلات والمطرزات كالأثواب المطرزة التي تحمل صفة خاصة لكل مدينة من مدن فلسطين، رغم كل المحاولات الإسرائيلية الشرسة لطمس هذه الهوية.
إن التراث الفلسطيني بتفاصيله وصل أرجاء المعمورة بسبب التهجير القسري الذي تعرض له الشعب الفلسطيني الذي حمل تراثه معه إلى جميع البلدان التي تهجّر إليها وأقام فيها على أمل عودته، وخوفًا عليه من الضياع، حتى أصبح معروفًا في كل زمان ومكان.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف تطورت الأغنية الفلسطينية في قلب الأغنية الشعبية؟