19-مايو-2018

صورة من أوائل القرن العشرين: حكواتي يروي سيرة الزير سالم في القدس

منذ 25 سنة، يطوف أحمد سليمان مهنا بلدات وقرى قطاع غزة، يعيش حياة والده وجده قبل النكبة، يتغنّى مع "عجايز ومخاتير البلد" بأغاني فلسطين قبل نكبتها عام 1948، حتى أصبح شغفًا فيها لا يرددها فقط، بل امتلك كتابًا خطّ فيه كل ألوان الأغنية الفلسطينية.

مهنا (56 عامًا) من بلدة القرارة جنوب غزة، استلهم كل أغراض الشعر الصحيح في أغنية فلسطين ما قبل النكبة؛ التي جمّعها في مدونته المكتوبة "أغنية فلسطين"؛ التي غلب عليها المدح والغزل، كما استشّف مهنا من تجربته، وأكد عليها فنان ومؤرخ لـ الترا فلسطين.

غلب المدح والغزل على الأغنية الفلسطينية قبل النكبة، وكانت السهرات الغنائية لا تنقطع إلا لوجود وفيّات

يقول مهنا: "كنت أسمع من والدي في صغري أبيات ورزازيع على شكل حكمة أو مثل، وانا أصلاً ابن البادية، فكان الكلام يستهوي قلبي، ولما صرت ابن ستة وعشرين سنة، صرت أقصد مجالس كبار السن والمخاتير وألتزم المكتبة العامة أبحث فيها عن أغاني فلسطين".

والأغنية الفلسطينية قبل النكبة كانت محددة يعرفها الجميع، وكانت تُغنى في المناسبات والحفلات العامة.

"وكان الرزع هو أغنية الحياة الفلسطينية قبل النكبة في المدينة والبادية، لأن حياتهم كانت هادئة مطمئنة، وكان أجدادنا يتّسمون بالمزاجية العالية، لذا غنّوا الدلعونا وتغزلوا كثيرًا ومدحوا"، يقول مهنّا.

وكان السامر يُقام ليلاً في معظم البلدات الفلسطينية - تحديدًا الجنوب - إلا إذا توفي شخص، فإن الناس لا يغنّوا عيدين حزنًا عليه، "فكيف بضياع فلسطين التي أنهت نكبتها هذا اللون من الغناء الفلسطيني؟" استدرك مهنّا.

وفي تقسيمات تدوينات مهنّا "أغاني ميجنا وعتابا، وأخرى رافقت الثورة في العشرينات والثلاثينيات، وبعضها غُنت بعد وعد بلفور، حيث بدأ الإنسان الفلسطيني يرزع أغانيه وأهازيجه لرفض الاستعمار قبل مجيئه".

فجأة ردد مهنا بعض ما حفظ من أغاني البادية: "إسرائيل طرف مزبلة والسيل قاذفهي، والقلب عايفهي".

"ليا وليا يابنية .. ياورداة ع المية

سمرة وجرحتي قلبي .. ردي السلام عليا

***

نزلت على الصفي صافي .. تشرب حليب وصافي

والله ما في إنصافي .. شايب ياخد صبية"

كانت هذه من أغاني فلسطين التاريخية التي يحييها الفنان والمؤرخ للأغنية الفلسطينية المخضرم زياد القزبغلي.

يقول القزبغلي لـ الترا فلسطين: "كانت عيشتنا هادية جميلة ما في احتلال، والأغاني آنذاك أهازيج كانوا يغنونها النساء والشباب بمناسبات وفي حفلات طربية غنوا: "حول ياغنام حول بات الليل هين، وليا ليا يابنيا ياواردة ع المية، وياهويدا لك ياهويدا لك، وياويل إلي ما يخاف ربه يتبغدد، تحت هودجها صار سحب سيوف، وغيرها".

استخدم الفلسطينيون من الآلات الموسيقية في أغانيهم اليرغول، والشبابة، والطبلة، والعود، والربابة

وكان الفلسطيني قديمًا - وفق الزبغلي - ملهمًا سرعان ما يُغني ويتغزل الغزل العفيف، لكن مع النكبة دخلت الميجانا والعتابا ومواويلها، حتى في الموال الفلسطيني الذي يتميّز بافتتاحية "أوف يابا". واستخدم الفلسطينيون في أغانيهم من الآلات الموسيقية، اليرغول، والشبابة وهي الأصغر قليلًا، والطبلة، والعود، والربابة التي كانوا يعزفون عليها في البادية.

القزبغلي دخل معهد المعلمين قبل حرب عام 1967، ودرس ثلاث مستويات في الموسيقى، ثم في السنة الرابعة قامت الحرب، فتشتت في سنته الخامسة.

يقول: "استقر الوضع بعد دخول اليهود، وزّعوا علينا هويات، وأيامها أرسلوني إلى مدرسة أحمد عبد العزيز في خانيونس، في منطقة سوق الأربعاء، وبعد خمس سنوات درَست فيها لغة عربية، أرسل لي مركز النور للمكفوفين لأعلّم الموسيقى فيه، وبقيت 21 سنة وأنا أعلمها للمكفوفين".

وكانت "السينما الحمرا" في يافا من أشهر معالم فلسطين، "كان والدي يذهب إليها للسهر فيها، كانت منصة لمطربين مشهورين ليس فقط من فلسطين، بل من خارجها مثل عبد الوهاب وأم كلثوم، وكان هناك فرق موسيقية بسيطة فلسطينية ومعظم أغانيهم من الميجنة سنة 1920" يروي القزبغلي.

ومن أبرز أرباب الأغنية الفلسطينية من يُعرف بـ"عازف الربابة"؛ الذي كان في كل ليلة يذهب إلى "القهوة"، ويترجل بآلته على مكان مرتفع وحوله الناس. فيما كانت قصص عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي من مستلهِمات أغاني ومواويل الفلسطينيين قبل النكبة، وأخرى من كتب الشعر وأخرى من تأليفهم.

يقول القزبغلي: "بعض هذه الأغاني لا أزال أغنيها، لأنها تراثنا بل إن نفسي لا تستهوي إلاها، وأحبها مثلها مثل كل شيء أصيل في التراث، ولكل مدينة لديّ أغنية".

وكان والد القزبغلي يخرج من غزة إلى يافا لحضور الحفلات الغنائية في "السينما الحمرا"، ففي ذلك الحين كان في ساحة التكسير بغزة مجمع للنقل العام، ينادي فيها السائقون: يافا، حيفا، الرملة، وقد كانت يافا الأحب إلى قلب والد القزبغلي، وكانت تسمى "أم الفقير".

ولم تكن الأغاني الفلسطينية تُكتب مجتمعة، وقد كان من أوائل من جمع عنها، الكاتب الفلسطيني عبد الكريم الحشاش، وهو من مواليد بئر السبع عام 1947، وبعده عبد اللطيف البرغوثي من جامعة بيرزيت، الذي جمع حوالي 200 بيت، إضافة للمؤرّخ والباحث الفلسطيني سليم المبيض الذي حاوره الترا فلسطين في هذا السياق.

يقول المبيَض - وهو صاحب 25 كتابًا معظمها حول تاريخ فلسطين - إن الأغنية الفلسطينية كانت لها عدة طبقات، كما هي الأماكن؛ قرية ومدينة وبادية، ولكل مكان وأهله آلته وأهاجيزه وسحجته وأغانيه.

كانت للأغنية الفلسطينية عدة طبقات، كما هي الأماكن: قرية ومدينة وبادية

وحينما طلبنا منه أن يتحدث لنا عن الأغنية الفلسطينية قبل النكبة، رفض التعبير وعلّق: "توقفي لا يوجد شيء اسمه قبل، ليست النكبة فاصلاً في التراث والأغنية، فالعادات والتقاليد لا تتجزأ ومثلها الأغنية". واستكمل، "حتى التراث انتقل في كل معسكر، وهذا بارز إلى يومنا هذا، فلكل مخيم فلسطيني أغاني ولهجة يُعرفون بها، وهي نوع من التميز يفتخرون به".

وتميّز الفلسطينيون بالميجانا، واختلفوا في أدائها، فأهل المجدل - مثلاً - كانوا يختلفون عن أهالي بربرة والبدو، وكانت بعض الأغاني عبارة عن مطارحات شعرية بين طرفين، وقد كثُر هذا النوع في الأفراح.

وأضاف المبيض، "كنت أحفظ وأنا طفل بعض الأغاني، ودائمًا أردد أغنية: يا ما خلق.. يا ما صوّر كعب البنت ريال مدور. وأغنية اللي دعونا.. ناس ملاح. وكان الفدعوس من أجمل مظاهر الغناء آنذاك، وأذكر حينما يوصل العروسيْن بالليل حتى باب الدار".

ويعتبر المؤرخ حال الأفراح الفلسطينية في الحاضر "تخلفًا لا تقدمًا"، ويدعو إلى الاستعانة بالأجداد وكبار السن لإحياء الأغنية الفلسطينية التراثية في أفراح هذه الأيام ومناسباتها.

تجدر الإشارة إلى شهادة أدلى بها الموسيقار اللبناني الراحل ملحم بركات، إذ قال في حديث لقناة "mbc" إن الفلكلور اللبناني ومنه الدلعونا والزلف والدبكة قد أتى من فلسطين، ولم يكن موجودًا قبل ذلك، ثم انتقل من لبنان إلى سوريا.