يُعبّرُ كل شعب من شعوب العالم عن مخزونه الثقافي من خلال أغانيه الشعبية والتراثية، فهذه الإيقاعات والكلمات توثق جزءًا من تاريخه وعاداته، وأي تغير في ملامحها يؤثر على هويتها وعلاقتها مع ماضيها وحاضرها. ظلت العتابا والميجانا والدلعونه والأوف وجفرا أشهر الأغاني ذات الطابع الفلسطيني الخالص منذ عقود، لكن كيف تطورت الأغنية الفلسطينية ومتى بلغت أوجها؟
يجيبنا محمد البوجي، أستاذ الأدب العربي والشعبي الفلسطيني في جامعة الأزهر بغزة، بأن الأغنية الشعبية مصاحبة للإنسان منذ آلاف السنين، وتتطور من مرحلة لأخرى مع بقاء الجوهر، ولكن لا يُمكن تحديد بدايات الأغنية الشعبية الفلسطينية، فقد تكون بدأت من العهد الكنعاني أو الفرعوني أو حتى البريطاني.
لا يُمكن تحديد بدايات الأغنية الشعبية الفلسطينية، فقد تكون بدأت من العهد الكنعاني أو الفرعوني أو حتى البريطاني
يتابع البوجي أن الأغنية تطورت بمفرداتها مع القضية الفلسطينية منذ بداية القرن العشرين حتى الآن، أي من بداية الاحتلال البريطاني ثم النكبة، ثم انطلاقة الثورات والانتفاضات الشعبية، وجميع هذه الأغاني شكلت جزءًا مهمًا في تراث الفن الفلسطيني، وكانت تحمس مشاعر الجماهير بشكل مستمر ضد المحتل.
اقرأ/ي أيضًا: الدبكة والدحية.. عبادة واستسقاء
وعند سؤال البوجي عن سبب فقدان الأغنية الفلسطينية مكانتها وصيتها، قال إن الأغنية الشعبية الفلسطينية - كما العربية - دخلت في صراعٍ مع وسائل الإعلام الحديثة، فقد اختلف على إثرها المزاج الشعبي متأثرًا بالأغاني المسجلة والسريعة، لتبقى الأغنية الشعبية موجودة في مناسبات المناطق الريفية.
ويضيف، "إلا أن هناك حضورًا دائمًا لبعض الأغاني الفلسطينية التي تحكي عن الأفراح الفلسطينية ومواسم حصاد الزيتون وغيرها من المناسبات السعيدة". ومن أغاني زفة العريس في التراث الشعبي الفلسطيني:
عريسنا ابن الكرام ابن الكرام عريسنا
عريسنا زين الشباب زين الشباب عريسنا
والي يعادينا نذبحه ونقطعه بسيوفنا
عاداتنا كيد العدا كيد العدا عاداتنا
من يومنا أهل النخا أهل النخا من يومنا
ومن أشهر أغاني طهور الأطفال:
يا ام العريس الله يتم عليكي
والسعد طلع من بين عينيكي
وهنا كان يوصف الطفل في طهوره بأنه عريس، ولا يزال هذا التشبيه حاضرًا في حالات كثيرة.
بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، دخلت روح الثورة والمقاومة الفلسطينية إلى قلب الأغنية الشعبية، فأصبحت ملازمة للفلسطيني أينما كان وفي أي مناسبة.
بعد النكبة دخلت روح الثورة والمقاومة إلى قلب الأغنية الشعبية الفلسطينية
لعبت أغاني الثورة دورًا وطنيًا هامًا، لتأثيرها البالغ في النفس، ومن أشهر تلك الأغاني: "هدي يا بحر"، "يا زريف الطول"، "موطني"، "فدائي"، "ثورة وهي يالربع"، "أنا قد كسرت القيد قيد مذلتي"، "هبت النار والبارود غنى"، "أنا يا أخي"، "طل سلاحي".
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | تالا وراما.. "جيتار" وطرب على شواطئ غزة
وعندما ظهرت الحركات الإسلامية في فلسطين أواخر ثمانينات القرن العشرين؛ تغيرت المفاهيم في الأغنية الشعبية الثورية من أغان ذات بعد وطني وقومي إلى إسلامي عالمي، فأصبحت مواضيعها دعوية وجهادية، وتم دمجها مع بعض الأغاني الثورية الشعبية القديمة، بنفس اللحن لكن بتغيير الكلمات.
وبهذا الخصوص، يقول البوجي لـ الترا فلسطين: "الأغنية الثورية الفلسطينية التي كتبها سعيد المزين وحسيب القاضي وصلاح الدين الحسيني (أبو الصادق)، أدت دورها الكامل حينها، وللأسف الشديد يأتي البعض ويغير مفردات هذه الأغاني ويبقي لحنها، فلا يجوز لأحد سرقة هذا المجهود، ولكن اجتهد وأنشئ أغنية جديدة".
ويضيف، "على أيديهم ضعفت الأغنية الثورية وأصبحت غير فلسطينية الهوية، بل إسلامية عالمية؛ فما يصلح غناؤه لماليزيا مثلًا، لا يصلح لفلسطين، وليس من حق أي أيدلوجيا أن تبدل الأغاني الأصلية بأغاني إسلامية".
في فترة التسعينات وحتى الآن، ظهر الكثير من الفنانين الفلسطينيين الذين قدموا الأغنية الفلسطينية بشكل جديد ومواكب للعصر، وانتشروا حول العالم، أشهرهم ريم بنا؛ التي فارقت الحياة في شهر آذار مارس الماضي، وسناء موسى، وريم تلحمي، ودلال أبو آمنة، ومحمد عساف.
كان المُلاحظ على الفنانين الفلسطينيين استخدامهم للهجات غير فلسطينية في بعض أغانيهم لتسهيلها على المستمع العربي، إلا أن هناك توجهًا في السنوات الأخيرة لاستخدام اللهجة الفلسطينية العامية في أغاني وصلت للعالم كله، مثل: "فرج سليمان – تيريز سليمان – الإنس والجام – نور الراي – فرقة تعليلة – soul 47".
اسا جاي؟
بعد ما خلص العنب
ونبيذه نشف عالكباي؟
اسا جاي؟
بعد ما بدي التعب
وقلبي بتحمّلش بداي؟
اسا جاي؟
بشال وعلبة سجاير
وإيد بتهمس في حشاي
اسا جاي؟
وليل ونسي شكلي
نهاري قرّب عالنهاي
* فرج سليمان
كما ظهرت العديد من الفرق المحلية والفنانين الذين يؤدون أغاني التراث الفلسطيني على أسلوب الراب، وبلغات أجنبية، وقدموها أمام الجماهير في دول أوروبية كثيرة، منهم علاء شبلاق، وهو منتج ومؤلف موسيقي ومغني من غزة، يستخدم موسيقى الراب، والهيب هوب، وموسيقى "ار ان بي" في أغانيه.
هناك توجه في السنوات الأخيرة لاستخدام اللهجة الفلسطينية العامية في أغاني وصلت للعالم كله
يقول شبلاق لـ الترا فلسطين: "نحاول قدر الإمكان أن تصل موسيقانا للجميع سواء المواطن العربي أو الغربي، وقمنا بأداء العديد من الأغاني باللغتين الإنجليزية والفرنسية ولغات أخرى، كما قدمت حفلات غنائية فلسطينية في فرنسا".
ويتابع، "الأعوام الأخيرة شهدت نقلة نوعية للموسيقى والأغنية الفلسطينية، التي كانت تفتقر للإنتاج الموسيقى في فلسطين، وهناك تطور ملحوظ في الإنتاج الفني عمومًا".
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | اليرغول والشبابة: رفيقا الأعراس والرعي
وعلى هذا المنوال يسير الفنان أحمد عكاشة، وهو مغني في فرقة "دواوين"، ويقول لـ الترا فلسطين: "أغني في الحفلات جميع الألوان؛ الوطني والطربي والكلاسيكي، وبالطبع لا تخلو من أغاني تراثنا الفلسطيني خوفًا عليها من الضياع".
أما عن رأيه في الأغنية الفلسطينية حاليًا، فيقول عكاشة: "الأغنية الفلسطينية في حالة تطور، خصوصًا بعد وصول محمد عساف للعالمية، كما أن المغني الفلسطيني يشعر بنفسه وبوطنيته حينما يغني أغاني التراث، لكننا نحتاج لخبرات السابقين في هذا المجال، والاستعانة بأرشيف منظمة التحرير الثقافي".
يحاول الكثير من أصحاب المواهب الغنائية الشابة أن يُظهروا تلك المواهب الفلسطينية القادرة على مواكبة الجو الغنائي العام في الوطن العربي، بغض النظر عن ما إذا كانت الأغنية تراثية أم لا.
يرى الفنان أحمد الحداد أن القضية الفلسطينية ممكن أن تصل إلى العالم عن طريق الصوت والموهبة بدون التقيد في غناء أغاني التراث الفلسطيني، كما يمكن إظهار جانب التنوع الفني في الأغنية في جميع ألوانها، حسبما قال لـ الترا فلسطين.
وتبقى الأغنية الفلسطينية هي أساس التراث الفلسطيني الذي يحاربه الاحتلال بمحاولات الطمس والتحجيم والسرقة. يطرح المُحاضر محمد البوجي العديد من الحلول لهذه القضية، أهمها إنشاء فرقة تراثية جوالة حول العالم لعرض التراث والأغاني الفلسطينية على المسارح العالمية، وإشعار الإعلان العالمي والدارسين بالتراث الشعبي الفلسطيني.
اقرأ/ي أيضًا: