ليس سهلاً انكسارهم وإن حدث وانكسروا فثمة خطأ ما جسيم. مدينةٌ واحدةٌ تتفنن في ارتكاب مثل هذه الأخطاء، رام الله، على أطراف رام الله، يشنق الجنوبي حلمه العتيد، يخلع شغفه المحروق، يحمل على كتفه كيس الذكريات ثم يغادر إلى قريته في ريف الجنوب، عشرات الجنوبيين من فنانين وشعراء ومثقفين وطلاب، انهمروا على رام الله في مرحلةٍ من حياتهم، أعطوها كل شيء، الجوع و الرغبة في الموت السعيد.
على أطراف رام الله، يشنق الجنوبي حلمه العتيد، يخلع شغفه المحروق، يحمل على كتفه كيس الذكريات ثم يغادر إلى قريته في ريف الجنوب
من بعيدٍ تبدو لامعة وقوية وآمنة، من بعيد تتظاهر هذه الخدعة الجميلة بأنها ربة الحنان وحافظة السر، من الداخل وبعد فوات الأوان، يكتشف الجنوبيون أنهم باعوا أرواحهم لمدينةٍ غريبة، ظنوها أمهم أو شقيقتهم الكبرى.
اقرأ/ي أيضًا: شابات لجأن إلى رام الله.. كيف الحياة معكن؟
أتذكر صديقي الشاعر الذي جاء قبل عشر سنواتٍ إلى رام الله، شابًا يانعًا، يرغب في التهام الشوارع ومعانقة حتى مجرمي المدينة، وتجارها الجشعين. عاش صديقي الشاعر سنواته العشر في حضن المدينة، غارقًا في حليبها وملتهمًا حلواها، كتب لها القصائد، وأهداها سره الجنوبي الذي لم يبُح به حتى لحبيبته، تخلى عن حبيبته الجنوبية، من أجل عيون محبوبته الجديدة رام الله، متحججًا للجنوبية الحزينة بأن فقط رام الله تستطيع أن تعطيه الطاقة والأمل للعودة إلى الجنوب والزواج منها.
لم يعد الشاعر إلى الجنوب، ظلت جنوبيته وحيدة تتصل به على موبايله دون أن يرد، وصلها أخيرًا منه رسالة أخيرة على الموبايل، يعتذر لها عن المجيء. ماتت الجنوبية من القهر، تزوجت فيما بعد تحت ضغط أهلها، سنين طويلة كانت تحتاج لتنسى حبيبها الجنوبي الهارب، وتنشغل بالأولاد والطبيخ وصراعات نساء الإخوة.
عاثت رام الله خرابًا داخل روح صديقي الشاعر، طلبت منه الكثير، أعطاها دون تفكير، ثم رمته على الرصيف بحجة أنها تشعر بالضجر وأنها مزاجية: "ألم أقل لك أني مزاجية يا شاعري من أول خطوة لك تجاه عينيّ؟". "لا أتذكر، والله لا أتذكر"، قال لها دامعًا.
نهشت رام الله أعصاب شاعرها الرقيق ونهبت حواسه، صار كومة ذكرياتٍ داخل الحاضر ذاته، تخلت عنه فجأة فاندسَّ في غرقته معتزلاً الأصحاب والمهنة والعالم، فكتبت له رسالة قصيرة: "الخلل فيك يا شاعري الجنوبي، لم تربّك قريتك على التغير، والثبات قتل". رد عليها برسالةٍ قصيرةٍ بينما كان يحزم حقيبته عائدًا إلى الجنوب: "أنا لست ضد التغير والحضارة، لكني أيضًا مع روحي ومع أمي".
نهشت رام الله أعصاب شاعرها الرقيق ونهبت حواسه، صار كومة ذكرياتٍ داخل الحاضر ذاته
الطعنات سقطت فوقه من حيث لا يدري، الأصحاب تغيروا مثل رام الله، انشغلوا بالبنات والسيارات والعمارات والقصائد الركيكة. صُعِقَ الجنوبيُّ الطيب من التغيير، لم يفهمه، كانت رام الله لطيفة وحنونة، وكانت تشبه رحلة رائعة إلى المجهول. عاد الجنوبيُّ إلى الجنوب بعد عشر سنواتٍ من محاولة العيش مع النمرة، رأى محبوبته التي تزوجت في الشارع مع أولادها، لم تره هي، لم يرد أن تراه، توارى خلف سيارةٍ وراقب المرأة التي باعها من أجل عيون وهمٍ اسمه الفرص والنوافذ والأفق الجديد.
أتذكر صديقة جنوبية جاءت إلى رام الله في تموز 2010، بنتٌ جميلةٌ لا تريد من رام الله سوى أن تفهمها، أن تخلصها من جمود الوقت في قريتها، أن تعطيها فرصة للمس الغيوم، إذ أن الغيوم في قريتها عاليةٌ جدًا، والزمن هناك يجلس دون حراكٍ مع مسنّي ومسنات قريتها على عتبات البيوت.
كانت مهووسة بفكرة الضباب الذي يمشي في الوديان في عز الصيف، برام الله، وكانت تحلم بالغرق فيه حد الإقامة فيه، قالت رام الله للجنوبية العشرينية السمراء: "تعالي إلى ضبابي، عانقيه، لا تخافي هو آمن". صدقت البنت، أعطت يديها بسخاءٍ للضباب الصيفي، أخذها الضباب. ومنذ صيف 2010 وحتى قبل سنةٍ تقريبًا وهي مقيمةٌ في بيت الضباب، لم تعد تعرف نفسها، فقدت الاتصال بروحها، ولكن نعاسًا مفاجئًا أصاب الضباب فجأة، فاستغلت الفرصة، وانسلَّت من شقٍ صغير، هربت إلى مدينةٍ أخرى، ما زالت تعيش فيها حتى الآن محافظة على وضوح الرؤية.
عشرات الأصحاب الجنوبيين أعرفهم جيدًا، جلست معهم واستمعت إلى قصصهم، معظمهم عاد إلى الجنوب أو سكن مدينة أخرى أقلَّ كذبًا من رام الله. مدينةٌ لا ضباب صيفيًا فيها يمشي على الأرض في الوديان المحيطة برام الله، ضباب فارغٌ وسطحيٌ لا يوصل إلا إلى عمارةٍ جديدةٍ أو مطعمٍ جديدٍ أو مقر جهازٍ أمنيٍ أو أمسيةٍ شعرية لشاعر يفهم الحداثة بشكل خاطىء، أو عاشقٍ يكذب على محبوبته، أو سياسيٍ يمشط شعره جيدًا قبل المؤتمر الصحفي، ضبابٌ قاتلٌ متربصٌ متخصصٌ بجذب الأبرياء الباحثين عن فرصةٍ للمس الغيوم والبحث عن المجهول.
اقرأ/ي أيضًا: