12-يونيو-2017

عدسة: أحمد غرابلي

لقد عاد الخطاب العربيّ الديمقراطي مُحاصرًا مرة أخرى، وقد عاد شيطان السياسة إلى موقعه الأوّلي في السياسة العربية، وعاد مذهب العدميّة السياسيّة، في السياسة وفي التعاطي معها، مذهبًا أساسيًا، وتم إعلان موت السياسة في العالم العربي، ألف مرة حتى الآن.

المقدّس الفلسطيني، يبدو أنه يغرق في الوحل رغمًا عن قداسته ذاتها. ليس المقدس الفلسطيني، إلّا نقيض المقدّس العربي الرسمي الذي ساد طوال العقود الماضية

فإذا كانت قوائم الإرهاب، تشتمل على تيار ديمقراطي عربي بأكمله، وتشمل حركات المقاومة، وحركات التغيير الشعبيّة، وإذا كان يتم التعاطي مع المسألة القطريّة الآن، كما تم التعاطي مع المسألة المصريّة من قبل، وكما يتم التعاطي مع المسألة السوريّة من قبل ومن بعد، على أنّها حرب شياطين بشياطين، وعلى أن لا غالب ولا مغلوب، وعلى أنّ الله سيضرب الظالمين بالظالمين، عودة إلى الخطاب الغيبيّ ورضوخًا إلى الخطاب الاستبدادي العربي الأوحد: الأمن مقابل الاستعباد، أو الفوضى مقابل الحرية، والتصفية الجسدية والقمع البوليسي والحصار الخانق على الأفراد والدول الذين دعموا وما زالوا يدعمون ويشكلون أعمدة الخطاب الديمقراطي العربي منذ سنوات حتى اللحظة.

إذا كان هذا كله قد عاد يحصل، ويسود خطاب العدميّة السياسيّة، فربما يجب علينا أن نتوقف قليلًا عند هذا الخطاب وجذوره في السياسة العربيّة، على الأقل، منذ سنوات لا أكثر، أي منذ اندلعت الثورات العربيّة، وبدأت شيطنتها على أنها حركة تغيير أمريكية، وتداخلت المؤامرة مع الثورة، ومسخت الآلة الإعلامية الاستبداديّة شخوص ورموز هذا التيار الديمقراطي، وهي الآلة نفسها التي تمسخ الآن ما تبقى من شخوص ورموز هذا التيار في هذه الحملة، وما زالت العدميّة السياسيّة في التعاطي مع الأزمات الثلاث وغيرها، تسود بلا منازع.

وما بين المقدّس العربيّ في السياسة، والمدنّس الفلسطيني في القلب من هذه السياسة العدميّة النازعة إلى المسخ والتشويه والتصفية، وما بين المقدّس الفلسطيني عن رمزيّة المقاومة وحقّ الشعوب في مقاومة الاستعمار والاستبداد على حد السواء، والمدنّس العربيّ النازع إلى مسخ وتشويه وتصفية هذا الحقّ وشخوصه، تكمن العدميّة السياسية في الممارسة اليوميّة الخاصّة والعامّة للمواطن العربيّ في أيامنا. بالطبع، لقد عدنا في الخطاب إلى النقطة صفر، إلى بحث المسألة العربيّة من جذورها، وإلى الحاجة إلى إعادة إذاعة البيان الديمقراطي العربي، وإلى البحث في جذور الإعاقة في المجتمع المدني العربي وإعاقة الخطاب الديمقراطي العربي، وإلى البحث في سؤال أن تكون عربيًا في أيامنا. كلّ هذه الأسئلة والعناوين، ربما علينا العودة إليها مرة أخرى.

وعلينا مرة أخرى، أن ننظر إلى أنفسنا اليوم، وننظر إلى أنفسنا قبل سنوات. قبل سنوات حينما استيقظنا مرارًا على يوم الجمعة، كيومٍ مقدّس، لا دينيًا، بل سياسيًا، وحينما كنا نتسمّر أمام شاشات التلفاز، في فلسطين وربما في قطر، وغيرنا متسمّر في الميادين، في القاهرة ربما وفي تونس العاصمة وفي حارات دمشق وحلب وحماة وحمص وإدلب. في تلك الأوقات أحسسنا بروح أمّة ميّتة تبعث للحياة من جديد وكأنها لتوّها ولدت وتقاطعت مع التاريخ وكأنها كانت على موعد معه دونما موعد حقيقي. مجرد ولادة تاريخية، لم نزل حتى الآن نستوعب آثارها في نفوسنا ولم نشفى بعد من مشاهد الميادين المهيبة ووجوه الشبان والشيوخ على حد السواء، وهم يعبرون الميادين رغم الغاز المسيل للدموع. وفي بعض الأماكن، رغم الصواريخ. الصواريخ أتت متأخرًا، بعد نكسة الميادين. الحصار الخليجي لقطر الحاصل الآن، ليس مفاجأة على الرغم من مفاجأته، إلا أنه عملية مستمرة منذ سنوات، ولأنها كانت مستمرة لم نلحظ فجاءتها، وتوغلها المفاجئ وقدرتها على إعادة هيكلة نفسها على هذه الصورة الصلبة. لقد كنّا في لحظة الانقلاب حاضرين في مصر، لكن هذه اللحظة لم تكن مشهدًا من مشاهد التصفية السياسية والجسدية للمعتقلين في مصر. في عملية تاريخية هي الأكثر شدة وتنظيمًا وقوة في تصفية أهم التيارات الديمقراطية العربية في تاريخ الأمّة العربية بأسرها، وما زلنا حتى اللحظة لا نعرف إلى أين انتهت وكيف ستنتهي، وما زلنا غائبين عن يومياتها التي سيكتب عنها لاحقًا وسندهش ونسأل أنفسنا كما سأل الأوروبيين أنفسهم عن المحرقة إذا كان من الممكن أن يحصل هذا كله على مقربة من بيوتنا وفوق أرضنا.

لقد كان في مصر، وما يزال، تيار ديمقراطي عربي حقيقي، كان يبني نفسه ويصقل ثقافته الديمقراطية السياسية التي هي على قطيعة بجذورها الفكرية مع العدمية في السياسة، وقد مرن نفسه على مدى سنوات على ثقافة الاحتجاج، وعلى ثقافة التعبير عن الرأي، والنضال السلمي، إلى أن استطاع في عام 2011، أن ينجز الخطوة الأولى في أهم ثورةٍ من ثورات القرن الواحد والعشرين. إلا أن قطيع الاستبداد العربي، قطعانه في البيوت، وقطعانه في الأجهزة الأمنيّة، وأجهزته الإعلامية والسياسية والأمنية، كانت أشدُّ حرصًا على تعلم مهارات الاغتيال السياسيّ ليس فقط لأهم ثورات العالم العربي، بل لروادها وتيارها وصانعيها وجذورها الفكريّة وما غرسته في عقول الناس، وكانت قادرة أيضًا على تحويل الرأي العام مرارًا وتكرارًا، وتقليبه كما يقلب الطفل لعبةً بين يديه، وتعليمه الفرق بين الفوضى والأمن، والسياسة وموتها، وقد ماتت السياسة في مصر منذ زمن، على حدّ تعبير أحد الكتاب.

أما المقدّس الفلسطيني، فيبدو أنه يغرق في الوحل رغمًا عن قداسته ذاتها. ليس المقدس الفلسطيني، إلا نقيض المقدّس العربي الرسمي الذي ساد طوال العقود الماضية. المقدّس العربي الرسمي القائل، بمبدأ نصح الجار للجار: "يجب عليهم ممارسة حقّهم في السّمع والطاعة.."، النقيض المقدّس الفلسطيني، هو ما جعل فلسطين مركزيّة في الميادين، دون استئذان من مستبدّي هذه العواصم، الحرّية، العدالة الاجتماعية، الحق في أن تكون حرًا، لا في أن تكون عبدًا. إلا أن العدمية السياسية تطال المشرق العربي أيضًل في النظر إلى أزمات الخليج تحديدًا، وإلى أزمات العرب عمومًا. فعندما يعلق أحد أهم الأدباء في المشرق العربي، على الأزمة الخليجية بوصفها أزمة بين البترول والغاز، ولا يرى فيها أزمة بين تيارين متناقضين، تيار استبدادي ظلامي، وتيار ديمقراطي، يجب التوقف أيضًا عند جذور هذه النظرة الاستشراقية التي يمارسها المشرقيّ العربي على العربيّ في الخليج. النظرة التي ربما تعود جذورها إلى مرحلة تقدمية عربية في المشرق العربي، وكان فيها الخليج ما يزال غارقًا في تحالفات ومجالس حكم بائسة، ولم تظهر فيها بعد أي تمايزات حقيقيّة بين دوله. وربما أيضًا تعود إلى تفاوت في الثروات الطبيعية. وتقوم النظرة الاستشراقيّة في المشرق العربي على النّظر إلى الجزيرة العربية، نظرة المتمدّن إلى البدويّ، أو كنظرة طاغية مصر، إلى الخليج: على أن أموالهم كالرز! وقد تكون هذه النظرة المستحكمة في المشرق العربي عن الخليج العربي، واحدة من أهم أسباب انعدام قدرته الحقيقية على تقدير مآلات الأمور، لا الآن، ولا من قبل. وقد تتعارض هذه النظرة مع نظرة سريعة ومتفحصة، إلى الإنتاج الفكري والثقافي، الذي تقوم به الدوحة منذ سنوات، فقط لزحزحة هذه النظرة، لا للتصالح مع قطر.

وفي فلسطين خصوصًا تسود العدمية السياسية بشكلٍ يثير الرثاء. إلا أنّ لفلسطين يبقى السؤال خاص دومًا، منذ أن كانت ترزح تحت الاستعمار الصهيوني منذ عقود طويلة. فما يزال تيّار واسع، يعمل كما يعمل الله في الغرب، بطرقٍ عجيبة وغريبة، فكريّة لها اشتراطاتها وغرائبها وعجائبها في خطاب الحرية، على تكييف نفسه مع الطغاة والقوى الظلامية والرجعية. ولهذا التيار هناك الكثير مما يقال ولا يقال، إلا أن أهم ما يقال في هذا السياق: هو أهمّية بحث هذه الجماعات اليسارية وغير اليسارية، دراسة متفحّصة، نفسية بالدرجة، لفهم سيكولوجيّة موت الشعوب وسواد العدميّة في السياسة في العالم العربي.

ليست العدميّة في السياسة عدم التدخل، بل في انعدام البصيرة السياسية، وفي انعدام الثقافة السياسيّة.

وسؤال فلسطين الخاص، يكمن في رمزيتها في الخطاب الديمقراطي العربي الذي تتمّ الآن تصفيته، وما تزال هذه التصفية مستمرة منذ سنوات، هو في حرمة سيادة الخطاب العدميّ في السياسة، وفي انعدام القدرة على التفريق، وفي سيادة الظالمين بالظالمين، حتّى بين المرء ونفسه. فسوادُ خطاب الخمول والكسل السياسيين، ليس فقط على مستوى التفاعل مع السياسة العربيّة، بل حتى على مستوى الفلسطينيين وقضيتهم، لم يبدأ إلا من هذا الباب، الذي كانت جذوره قد بدأت بالتشكل منذ نهايات الانتفاضة الثانية وتعميم آراء خاطئة وفاسدة عن المقاومة الفلسطينية وشخوصها، وفي ما يشبه فكّ الارتباط القومي، بالأمة العربية عن طريق الارتباط الفردي بالمسألة الإقتصادية.

على هذه الشاكلة، تستباح الشعوب، بعد أن يستبيح الأفراد أنفسهم وحقوقهم. وعلى هذه الشاكلة، يعود الخطاب الديمقراطي العربي، الذي يقوم بالأساس على مبدأ المواطن الفرد الذي هو جزء لا يتجزأ من الأمة الواحدة، يعود معاقًا إذا عاد هذا المواطن، فردًا، يشكل جزءًا لا ينتمي لا لأمة ولا لجماعة، بل لخوف مستحكم في العقول وفي النفوس. وبهذه المنهجية يتم تصفية العقول قبل تصفية الأجساد، وبهذه المنهجية الإعلاميّة الأمنية، تم تصفية التيار الديمقراطي في مصر، وبهذه المنهجية تمّت تصفية الثورة السورية وتحويلها إلى حرب أهلية، وبهذه المنهجية تحاصر قطر، وبهذه المنهجية تم تصفية ثقافة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية. وببساطة، فإن قادت العدمية السياسية الدول إلى استعادة استبدادها، وقادت الأفراد إلى أمنهم الخاصّ، فعلى تلك الدول، أن تجيب عن أسئلة هذا الجيل العربي على الأقل، عن الفقر والعدل والحرّية والعدالة الاجتماعية ومكانهم من المستقبل ومكان أولادهم، الذين سيعودون مرة أخرى للأسئلة نفسها بعد استفحال كوارثها في حياتهم وموت الشعوب كما ماتت السياسة، إلى أن تنمسخ إلى شعوب من هياكل عظميّة، وعلى الأفراد، أن يراجعوا عدميّتهم في السياسة، إذا كانت ستقودهم كما قادت أسلافهم، إلى أشباح شعوب. 


اقرأ/ي أيضًا:

بينما نلهو.. "إسرائيل" تصنع مجدًا!

كيف أصبحت أيّامنا بعد حزيران كُلّها حزيران؟

بين رام الله وغزة لعنة عاشق!