عسكريًا: كانت ذليلة لأنها كانت بلا حرب
كان المؤتمر الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في معهد الدوحة/قطر، بمناسبة مرور خمسين عامًا على حرب حزيران/ يونيو 1967، فرصةً أخرى لمراجعة علميّة وأكاديمية لـ"الهزيمة" ووضعها على مبضع تشريح الأساطير. أساطيرنا حول أنفسنا أوّلًا، وأساطيرنا حول آخَرَنا ثانيًا: إسرائيل.
الأهم من الأحداث، هو طريقة مراجعتها وتقييمها وفهمها واستيعاب دروسها، وهزيمة حزيران نمط الهزائم الكُبرى التي تتجاوز خسائرها ما سقط في الميدان
قيل مما قيل في المؤتمر بأنَّ التفوق الإسرائيلي كان من الممكن ألا يكون لولا تقديرات غير مسؤولة استهانت بالضربة الجويّة الأولى الإسرائيلية. زِد على ذلك أنَّ الاحتلال الإسرائيلي لسيناء كان من الممكن تجنبه، أو كان سيكون "مكلفًا للغايّة" على الأقلّ، لولا قرارات القيادة المصريّة غير المسؤولة أيضًا بالانسحاب دون داعٍ وبشكلٍ "غير منظّم"، وهو الأمر الذي أدّى إلى انهيار الجبهة المصريّة، لتتلوها من بعد ذلك انهياراتٍ متتاليةٍ للجبهات العربيّة.
وكما أشارت أغلب الأوراق، فإنَّ "التفوّق" الإسرائيلي كان أسطورة، أو كان على الأقل مبالغًا فيه، فقد كان الجيش الإسرائيلي جيشًا عاديًا، ولكن الاستهتار المصريّ هو الذي جعله "لا يُقهر". فالأداء لم يعكس أصلًا، ولو جزءًا يسيرًا من التجهيزات والموارد العسكرية على الأرض.
كما قيل أيضًا بأنّه وباستثناء عدة معارك باسلة قادتها مجموعات من جنوده في القدس، فإنَّ الجيش الأردنيّ كان قد انسحب من معظم أراضي الضفّة الغربية بعد مرور ثلاثين ساعة على الأكثر من ساعة الصفر، لقد كان الجنود كما شهد عدد من لواءاتهم معبؤون للقتال وجاهزون له، ولكنهم ليلة المعركة فقدوا اتصالهم مع القيادة التي لم تكن قد أخذت موضوع القتال بجدية، والتي قررت في ساعاتٍ قليلة قبل المعركة بأن تُهزم في المعركة. نعم، في حالة الأردن، كانت الهزيمة قرارًا: التضحية بالأرض من أجل بقاء النظام، تمامًا كما كان الأمر في جبهة الجولان.
وحدّث عن الجولان بلا حرج، ليس لأنَّ نظام البعث السوريّ كان قد قضى بسقوط القنيطرة قبل سقوطها الفعليّ كما يعرف الجميع الآن، بل لأن السقوط أيضًا، وبحسب تقديرات أكثر المتشائمين تشاؤمًا، كان أشبه بالمستحيل. لقد كان من الصعب تخيّل سقوط مرتفعات الجولان، ليس لشيء إلّا بوصفها مرتفعات من الصعب جِدًّا للجيش الإسرائيليّ أن يتسلّقها، وبوسعِ أي فرقةٍ عسكريّة مُدافِعة تتمركز على سفحها أن تكتسب أفضلية كبيرة تمكنها من ردعِ أيّ قوةٍ مهاجمةٍ بسهولة.
لم تكن أسطورةً إذًا أن إسرائيل قد ضاعفت مساحتها عقب الـ (67) عدة مرات، لكن ما كان أسطورةً بحق هو أنّها فعلت ذلك بعد حرب. والحقيقة أنّها كانت هزيمة، وما جعلها ذليلة أنّها كانت بلا حرب. لذلك ظهرت وكأنها غير معقولة وجرّت خلفها اللامعقول كله ليصبح أساسًا أساسيًا في فهمنا لأنفسنا.
ثقافيًا: حينما وُلدت ما بعدياتنا المخصية
وكالعادة، فإنَّ ما هو أكثر أهميّة من الأحداث هو ما بعدها. الطريقة التي تتم مراجعتها وتقييمها وفهمها واستيعاب دروسها، أو حتى إنكارها. وهزيمة حزيران هي من نمط الهزائم الكُبرى التي تتجاوز خسائرها المباشرة ما سقط في ميدان المعركة، وهي بذلك كانت إحدى التحوّلات المفصلية التي شكلّت الوجدان العربيّ المعاصر ومخياله السياسيّ. لقد كانت ما سُمي بحرب 1967، كما أكدّت العديد من أوراق المؤتمر، الولادة الثانية لدولة إسرائيل ليس أمام العرب فحسب؛ الذين كانوا يرونها قبلئذ أثرًا استعماريًا يمكن تصحيحه، بل أيضًا أمام نفسها؛ حيث وحّدت الحرب ما كان تاريخيًا مشرذمًا في إسرائيل، وأكملت مسار الأمة-الدولة فيها، وصهرت ما بين الديني والعلماني في توليفة كانت هي الميلاد الثاني والمكتمل للقومية اليهودية. لقد تجاوزت الصهيونيّة بعد "الأيام الستة" نفسها، وأصبحت –بحق- ما بعدها؛ ما بعد الصهيونيّة.
وكما كانت الـ (67) ولادةً للما بعدية الصهيونية في مثالياتها القومية، كانت هي بحدّ ذاتها ولادةً للمابعدية العربية بانحطاطها وهزيمتها وتخلّفها، التي أصبحت جميعها عناصر مركزية في الـ "نحن" الحديثة خاصتنا.
منذ ذلك الحين، انفلتت السياسة وشعاراتها وأخذ كلٌ منهما "اتجاهه المعاكس"، فصارت الانفصاميّة عنصرًا مركزيًا في الثقافة السياسية العربية. أنجبت هزيمة الـ (67) الأنظمة العربيّة المعاصرة بأسوأ تقاليدها وأعرافها. بواقعيتها السياسية المهزومة، وباستبداديتها التي استبدت بالناس بشعارات لم تؤمن بها يومًا. لتنغلق ما بعد ذلك ما يمكن تسميته بدائرة الكذب المتبادل: الجميع؛ شعوبٌ ونُخبٌ، يكذب على الجميع، والجميع يعرف أنَّ الجميع يكذب. ولردحٍ طويلٍ من الزمن عاشت بنية الكذب هذه، التي كان من الممكن أن تنهار بأي لحظةٍ، لولا أنّها شكلّت الأساس الثقافي للنظام العربيّ المعاصر ومركز علاقات القوى داخله. لقد فضلّت نخبة ما بعد الـ67 الكذب على الاعتراف، وورّثت خداعها وفهلويتها من بعد ذلك لأجيال وجدت أن الكذب بحدّ ذاته أصبح نظامًا للحياة.
وكما عبّر عن ذلك الراحل جورج طرابيشي، كانت نتيجة كل ذلك إنتاجًا وإعادة إنتاجٍ لنخبٍ عانت من "الخصاء" السياسي والثقافي. إنه الخصاء التي صبّت بموجبه النخب جام غضبها واحتقارها على شعوبها وبررت استعبادها بعبوديتها، مغطيةً بذلك على عجزها عن محاسبة نفسها، وعلى تقصيرها في التحضيرِ للحرب أو إدارتها، أو حتى محاولة فهمها.
بهذا المعنى، تحوّلت الـ67 من مجرد معركة طائشة خاسرة متهورة، إلى بنية ذهنية متوالدة، تتهم بسببها النخب العربية مواطنيها بالتخلّف والرجعية وحتى التآمر، وتشنّ عليهم باسم الوعي والتقدّم والعلمانية حروبًا حقيقية يُستعمل فيها الطيران والكيماوي والإعدامات الجماعيّة بطرقٍ تبدو أمامها هزيمة حزيران تافهة. بهذا المعنى بالتحديد أصبحت أيامنا بعد حزيران كلها حزيران وأصبح تاريخنا بعد ذلك كله هزائم.
إنّ فهمًا عميقًا لطبيعة النظام العربيّ وسياساته الاستبدادية، وردود أفعاله على مطالب الشعوب السياسية والاجتماعية، لا بد أن يبدأ أولًا من نقد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 ودورها الأساسيّ في تشكل بنية الخطاب العربي النخبوي وازدواجياته السياسية والثقافية.
اقرأ/ي أيضًا:
بشارة: حرب 67 هي التاريخ الحقيقي لنشوء إسرائيل