29-سبتمبر-2023
افري جلعاد

״من الناحية المبدئية يجب تصفية المخرب في ساحة الهجوم. بالطبع نعم. من الواضح نعم. من يفكر بخلاف هذا ليس راغبًا في الحياة". بهذه اللهجة الحاسمة يوضح الإعلامي الإسرائيلي الشهير افري جلعاد، الذي تربى في منزل ينتمي لحزب "ميرتس" اليساري وكان ناشطًا بارزًا في صفوفه، موقفه حول إعدام الجرحى الفلسطينيين ميدانيًا. يتدخل المذيع الشهير داني كشمارو الذي يجري اللقاء مع افري جلعاد طالبًا منه توضيح كلامه بينما تعلو محياه ابتسامة لا تنطوي على أي استنكار: "هل تجب تصفيته حتى لو كان عاجزًا عن الحركة؟"، فيُجيب افري جلعاد: "ماذا يختلف إذا تم شل قدرته على الحركة؟ هل أنا مضطر لأن يعيش لدينا 30 عامًا في السجن ثم يتم تحريره في صفقة تبادل أسرى؟ من الناحية المبدئة والأخلاقية من جاء لقتلك، فإن قتله فريضة دينية. إنه يستحق الموت".

افري جلعاد، الداعي إلى قتل الجرحى، لم يدرس في مدرسة "عود يوسف حاي" -يوسف لم يزل حيًا- في مستوطنة "يتسهار" التي تشجع طلبتها على الاعتداء على الفلسطينيين، بل درس في مدرسة "رحافيا" الثانوية التي خرجت الكثير من الشخصيات الهامة في تاريخ "إسرائيل" في كل المجالات

لا تغيب الابتسامة عن وجه المذيع المخضرم داني كشمارو ويقاطعه متسائلاً: "حتى لو رفع يديه مستسلمًا؟"، وبلهجة أكثر ثقة يأتي الرد: "حتى لو رفع يديه مستسلمًا. ماذا يعني ذلك؟ لن تصيبني الصدمة من ذلك لدواعي أخلاقية. لقد جاء بنية القتل ولقي حتفه، لستُ منفعلاً من ذلك، وأعتقد أنه يتوجب التصرف على هذا النحو".

وقت الذروة في صناعة التلفزيون يسمى "وقت البرايم التايم"، وهي الفترة الزمنية من اليوم، التي تبلغ فيها نسبة المشاهدة أقصاها، مثلاً من الساعة 8:00 مساءً حتى الساعة 11:00 قبل منتصف الليل. وفي "إسرائيل" وقت الذورة هو مساء الجمعة، وفي هذه الفترة يتم تداول قيم التيار المركزي في المجتمع وتصوارته حول الأحداث، كما تبث خلالها القنوات الإسرائيلية الرئيسية مجلاتها الإخبارية الأسبوعية، وتحشد فيها الأنباء والمقابلات الحصرية عند الساعة الثامنة مساءً، تحقيقًا لمبدأ المنافسة الذي يحكم عمل هذه القنوات.

أقدم المجلات الإخبارية التلفزيونية الأسبوعية في "إسرائيل"، ومن أكثرها متابعة وتأثيرًا وإثارة للجدل الإعلامي والسياسي والاجتماعي هو برنامج "ستديو الجمعة"، يقدمه داني كوشمارو وإلى جانبه كبار المعلقين السياسيين: أمنون أبراموفيتش، أراد نير، كيرين مارسيانو، دانا فايس، وأميت سيجال. يتضمن البرنامج الذي تم بثه على الهواء منذ عام 1995 حلقة إخبارية مع ملخص لأحداث الساعات القليلة الماضية في الأخبار المحلية والعالمية، وبعدها مباشرة حلقة مجلة موسعة تحتوي على تقارير استقصائية ووثائقية وحلقة نقاشية بمشاركة معلقين يتخلها مقابلات مع كبار السياسيين والخبراء .

برنامج "ستوديو الجمعة" في القناة 12 كان يقدمه يائير لابيد حتى كانون ثاني/يناير 2012، ومنه قفز إلى الحياة السياسية، واتهمه خصومه باستغلال عمله في تقديم برنامج "ستديو الجمعة" الهام إسرائيليًا لتكريس نفسه كقائد. وبعد دخول يائير لابيد الحياة السياسية ومغادرته القناة 12، استلم مكانه في "ستديو الجمعة" الصحفي الشهير داني كشمارو، الذي بلغ حاليًا 55 سنة، قضي منها 27 سنة في الإعلام.

مؤخرًا، استضاف داني كشمارو في برنامجه "ستديو الجمعة" الإعلامي الذي لا يقل عنه شهرة وتأثيرًا افري جلعاد (61 سنة)، حيث رافقه لساعات استعرض فيها سجله الثري وقصة نجاحه التي بدأت في إذاعة الجيش، ونشاطه في الترويج لاتفاق أوسلو في صفوف حزب "ميرتس" اليساري، ثم انتقاله للعمل مذيعًا في أهم البرامج في القنوات الإسرائيلية، وآخرها القناة 13، وهي من أهم القنوات التي تخاطب الاسرائيليين عمومًا و لاتقتصر على جمهور معين.

نجح داني كشمارو مقدم برنامج "ستديو الجمعة" في رواية قصة نجاح  زميله افري جلعاد من القناة 13  في قالب مشوق، وقد تراوح التقرير المطول بين المقابلة والتجوال مع افري جلعاد من المنزل حتى إذاعة الجيش، حيث كانت الولادة الصحفية لجلعاد، ثم في قاعة النادي الرياضي. وعندما بدأ افري جلعاد، الشخص المطروح كـ"قدوة"، بالكلام، انتقد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتياهو ووزير الأمن القومي ايتمار بن غفير، وبدا في ذلك منسجمًا من جزء كبير متابعي القناة 12 غير المتحمسين لنتنياهو وبن غفير، ثم استخدم افري جلعاد قدراته الإقناعية وكاريزما الفنان لتبرير إعدام الجرحى الفلسطينين، ولم تكن مهمته صعبة، فالمذيع داني كشمارو تعاطى مع دعوة افري جلعاد لقتل الجرحى بأقل من الحد الأدنى من ردة فعل أي مذيع في قناة تلفزيونية كبيرة وعريقة يُبرر ضيفه أمرًا يعتبر جريمة موصوفة في القانون والدولي وقوانين معظم دول العالم.

افري جلعاد، الداعي إلى قتل الجرحى، لم يدرس في مدرسة "عود يوسف حاي" -يوسف لم يزل حيًا- في مستوطنة "يتسهار" التي تشجع طلبتها على الاعتداء على الفلسطينيين، بل درس في مدرسة "رحافيا" الثانوية التي خرجت الكثير من الشخصيات الهامة في تاريخ "إسرائيل" في كل المجالات، ولم يتربى في مستوطنة في الضفة الغربية، بل في حي قطمون، أرقى أحياء غرب القدس، وأبوه أبراهام كويستلر شخصية مرموقة جاء من تشيكوسلوفاكيا بعد أن نجا من معسكر الإبادة النازية في بيركيناو، وكان كاتبًا ومترجمًا وعمل أيضًا كمحرر للمطبوعات في مركز المعلومات في الجامعة العبرية.

التغيرات العميقة في شخصية افري جلعاد وأقرانه والجيل الجديد في "إسرائيل" الذي يرى في جلعاد قدوة، يُمكن فهمها عند الاطلاع على خلاصة محاضرة ألقاها المفكر والحاخام ذائع الصيت يشعياهو ليبوفيتش، أمام مجموعة من كبار الضباط الإسرائيليين بعد حرب حزيران في كلية القيادة والأركان المشتركة المكلفة بإعداد وتدريب وتأهيل كبار الضباط في أفرع الجيش الثلاثة - البحر والجو والبر- جاء فيها: "الفخر القومي، ونشوة النصر، بعد حرب الأيام الستة مؤقتة، لكنها حملتنا من الفخر بالشعور القومي، إلى القومية المتطرفة المسيانية [الخلاصية]، تكثيف جهود الاستيلاء على الأراضي، وممارسة الاعتداءات لإقامة دولة إسرائيل الكاملة لتعجيل نزول المسيح المنتظر، والمرحلة الثالثة التحول إلى بهائم وهي المرحلة الأخيرة وفيها نهاية الصهيونية".