21-يناير-2018

توالت الأحداث التاريخية في إسرائيل خلال الأسابيع المنصرمة: الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإجماع الليكود وقراره بفرض السيادة الإسرائيلة على الضفّة الغربية؛ وهو القرار الذي سيترجم إلى قانون لاحقاً في الكنيست الإسرائيلي، ثم إقرار قانون الإعدام لمنفّذي العمليات في القراءة الأولى في الكنيست.

إن السؤال الذي يبرز مباشرة فور قراءة هذه الأحداث الثلاث التي وقعت في غضون أسابيع قليلة، هو: ما الذي يحدث في إسرائيل، ولماذا الآن، لماذا هي العلانية في السلوك الإسرائيلي؟

السؤال الذي يبرز بعد قراءة الأحداث التاريخية الأخيرة في إسرائيل، ما الذي يحدث في إسرائيل؟ ولماذا الآن هي العلانية في السلوك الإسرائيلي؟

في العام 1940، يكتبُ الفيلسوف والتر بنيامين حكاية الدمية الأوتوماتيكية المعروفة، والتي كانت تجيدُ لعبة الشطرنج وتنال إعجاب الجمهور المتفرج دائماً بخطواتها ونقلاتها المحكمة. وتحت الطاولة، كان يختبئ قزم أحدب تولّى إدراة اللعبة ببراعة وكفاءة. في خيال بنامين الخصب، كما يقرأه المؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند، تحوّلت الدمية إلى نوع من التفكير المادي، فيما تحوّل القزم المختبئ إلى ثيولوجيا؛ بمعنى أن العقيدة الخجولة اضطرّت إلى إخفاء نفسها في عصر العقلانيّة الحديث.

اقرأ/ي أيضاً: عن الخلاص الصهيوني: القدس شرطاً لعودة المسيح

ولكنّ عصر العقلانية الحديث، المشكوك في نظريّة حداثته أخلاقياً وفكرياً، لم يكن دائماً العصر ذاته. ففي تعليقها على ظاهرة "ترامب"، تتحدّث الفيلسوفة جوديث بتلر عمّا قام به ترامب بوصفه "تحرير" للكراهية ضد الحركات الاجتماعية وضد الخطاب العام المناهض للعنصرية. ففي نظر ترامب، لكلّ شخص الحق في ممارسة كراهيّته علناً وسرّاً. فقد وضع نفسه، أي ترامب، بالأساس في موضع استعدادي للوقاية من الإدانة الشعبية له ولعنصريته، وتمييزه الجنسي، ونجح في ذلك، إلى أن صار مناصروه يرغبون أيضاً بعدم الخجل من عنصريّتهم وبالتالي، وازداد معدّل الكراهية المُعلنة، وجرائم الكراهية في الشوارع الأمريكية، وحتى في أوروبا.

وترى بتلر، أن الناس شعروا بحرية "النباح" بعنصريّتهم وفق ما يناسبهم، وقد رأوا في ترامب الظاهرة، المتجوّل ببذاءته وعنصريّته الفجّة، نصيراً لهذه العنصريّة الكامنة فيهم، بل وأحبُّوا تواجده على الشاشات والمنابر العامة.

لم يقتصر "تحرير" الكراهية الذي قام به ترامب، على الشوارع الأمريكيّة، بل امتدّ حتى القُدس، بإعلانها عاصمة للدولة اليهودية. وقد تلقف اليمين الصهيوني المتطرّف خطاب الكراهية الفجّ هذا، واستثمرهُ في تصعيد خطابهِ – أي خطابُ ذلك القزم المختبئ في داخل الدمية الأوتوماتيكية، أي جوهر الدمية، الخطابُ اليهودي المتطرّف العنصري الاستيطاني – في تصعيد خطابه العنصريّ ضد الفلسطينيين، وإعلان الليكود، التجمُّع اليميني الصهيوني الأكبر، قراره بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية التي تشكل مرتكز الاستيطان اليهودي في فلسطين وجوهره بالنسبة لهم.

المجتمع الإسرائيلي اليوم بأكمله مُجنَّد وخاضع لهيمنة الخطاب اليميني المتطرف، وحتى اليسار الإسرائيلي الذي كان إلى حين متردداً في شأن الضفة الغربية، ويُحاجج بموضوع الأمن القومي والعقيدة الأمنيّة فيما يتعلّق باستمرار الاستيطان في الضفة الغربية، حتى هذا اليسار رضخَ لهيمنة اليمين الصهيوني وخطابه العنصريّ ومطالبه في السيادة الإسرائيلية غير المنقوصة والمُستندة إلى حجج توراتية لاهوتيّة فيما يتعلّق بحق الاستيطان اليهودي في فلسطين.

إسرائيل تدخل عصر الحكم الشمولي، حيث يسود الخطاب اليميني المتطرف ويهيمن على كافّة مفاصل الدولة والحكم في إسرائيل

وقد يكون من المنصف القول اليوم، بأن إسرائيل تدخل عصر الحكم الشمولي، حيث يسود الخطاب اليميني المتطرف ويهيمن على كافّة مفاصل الدولة والحكم في إسرائيل. يغذّي هذا الحكم هيمنة نخبة واحدة وحيدة، متطرفة وعنصرية، ليس تجاه العرب وحسب، بل تجاه كلّ من يخرجُ عن صفّ "الوطنيّة" الإسرائيليّة اليهودية المُتغلغلة في الخطاب الصهيوني. إلا أن الإشكال الحقيقي، لدى هذا الخطاب، أنّه لا يعرفُ أين ينتهي ومن أين يبدأ. فاليمينُ المتطرف، بكلّ مرجعيّاته الدينية والخطابيّة، لا يستطيعُ تحديد حتى حدود الدولة الإسرائيليّة المتخيلة، ولا يستطيعُ تحديد من هو اليهودي حقاً، ومن هو غير اليهودي.

اقرأ/ي أيضاً: إعدام الأسرى.. من سيقتل من؟

وفي المقابل، يبدو المجتمع الإسرائيلي اليوم، نموذجاً مثالياً عن الرعيّة المثالية في الحكم الشمولي، التي تتألّف ببساطة من البشر الذين لم يعودوا قادرين على التمييز بين الواقع والمُتخيّل، وبين الصواب والخطأ، بلغة حنّة آرندت. وإضافةً إلى ذلك، فإن إقرار قانون الإعدام لمنفّذي العمليات الفلسطينيين، يُشير إلى تصاعد حالة اللامبالاة الأخلاقية تجاه الضحيّة التي تسود في المجتمع الإسرائيلي، ولدى المُشرّع الإسرائيلي. هذه اللامبالاة الأخلاقية التي يرى فيها بعض المفكّرين إحدى ركائز الأنظمة الشمولية المهيّأة لارتكاب عملية إبادة جماعية منظّمة مسبقاً، ومخطط لها ضمن عملية بيروقراطية متناسقة ومتشابكة شبيهة بـ"الهولوكست"، حيثُ الضحيّة في هذا النظام، غير مهمة إلا بقدرِ ما تحتاجُ من عناية تحقيق الموت، وحيثُ القاتل مجهول الهوية، ضائع في زحمة المراتب البيروقراطية المجهولة.

إسرائيل اليوم، تتغذّى على خطاب الكراهية الذي يدشّنه "ترامب" كظاهرة، واليمين المتطرف الأوروبي، مثلما ظهر في مظاهرات وارسو قبل عدّة أسابيع. ومن ناحية أخرى، فإن القزم الديني المتطرف العنصري ذو النزعات المسيانية الخلاصية، يأخذُ في الظهور تدريجياً متخلّصاً من خجله القديم في عصر العقلانية الحديث.

وباختصار: فإن الناظر المتعمق اليوم في الأدبيات الصهيونية، القديم منها والحديث، الفكري منها والسياسي، ينظر إلى وعاء مليء بحداثة سائلة نتنة، تفوح منها رائحة الأمراض النفسية القومية، والأوهام التاريخانية المسيحية التي تؤخذ على محمل الجد فعلاً وقولاً، والتعلق المرضي بالعودة إلى الماضي، والسلفية في التفكير، وتوظيف "الآلهة" في عملية دموية كلية وشاملة خطابية وأخرى واقعية منتظرة، لا تنتهي عند دم الفلسطيني وحسب، بل تشمل "الآخرين" أياً كانوا.


اقرأ/ي أيضاً: 

إعلان القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي.. دوافع وآثار

يهود الروح: الاستعمار الأمريكي والأسطورة التوراتية

منشورات تخليد الذاكرة: عن زمن فردوسي الصورة