منوعات

"تشبارة" الفلاحين.. صناعة حققت اكتفاءً ذاتيًا قبل قرن ونصف

17 سبتمبر 2017
GettyImages-53007290.jpg
كان النساء والرجال يتشاركون في صناعة الشيد في كل مراحله - (Getty)
غسان دويكات
غسان دويكاتمُدرّس مهتم بالتاريخ المحلي في فلسطين

عرف الفلاحون في فلسطين دائمًا كيف يكتفون ذاتيًا بشكل جيد، فعلوا ذلك في الطعام لوقتٍ طويل، كما فعلوه في بعض الصناعات أيضًا، عندما اعتمدوا على أنفسهم في توفير مكونات البناء، ومنها مادة الشيد، التي كانت تُنتج من خلال عملية يتشارك فيها الكبير والصغير، رجالاً ونساءً، وتُنفذ في "الكبارة"، هذه التي يلفظونها "تشبارة" بلهجتهم.

و"التشبارة" مكان واسع تُجمع فيه الحجارة الكلسية ومادة الاشتعال، وتكون فيه حفرة خاصة بالحرق، وتُنفذ فيها عملية إنتاج مادة الشيد التي تثبت الحجارة بعضها ببعض، وللقصارة أيضًا، حيث تُكسى جدران الأبنية من الداخل بطبقة منها لإغلاق المسامات بين الحجارة، كناحية جمالية وصحية من جهة، ولعكس الضوء داخل البيت من جهة ثانية، لأن لون الشيد أبيض.

قبل 150 عامًا أنتج الفلاحون في فلسطين الشيد من خلال "التشبارة"، بواسطة عملية من أربع مراحل، ليتم استخدام الشيد في البناء كناحية جمالية وصحية

وبدأ فلاحو فلسطين إنتاج الشيد في أواخر العهد العثماني، وهذه العملية كانت تتم في موسم الصيف فقط، حيث يكون جفاف التربة والحجارة والنتش أو الحطب.

اقرأ/ي أيضًا: أبو المواسم فرحة الفلاحين

وتجري عملية إنتاج الشيد على أربع مراحل، يتم في الأولى منها جمع مادة الاشتعال بكميات وفيرة جدًا؛ كافية لبقاء النار مشتعلة لمدة تتراوح لخمسة أو ستة أيام، طوال الأربع وعشرين ساعة، وفقًا لحجم "التشبارة". وكانت المادة المتوفرة والأفضل هي نبات البلان المعروف محليا بـ"النتش"، قدّرها أحد المجربين بحوالي (600 – 800) كومه من النتش للتشبارة الواحدة.

وفي المرحلة الثانية من الإنتاج، تُحفر حفرة دائرية يتراوح قطرها ما بين ثلاثة أمتار إلى خمسة أمتار، ويصل عمقها من مترين إلى ثلاثة أمتار، وفقًا لكمية الحجارة المراد حرقها، ثم تُبنى جدران الحفرة بالحجارة على شكل سلسال منسجم مع  شكل الحفرة الدائري، من قاع الحفرة إلى ارتفاع يقارب مترًا واحدًا فوق مستوى الأرض، ولا تُغلق الحلقة بل تتُرك فتحة فيها من أجل تزويد النار بالنتش والحطب، ثم يُبنى سقف مقبب من الحجارة على الحلقة الدائرية، بحيث تصبح الحجارة كلها عبارة عن بناء أجوف ذو قبة له فتحة واحدة فقط لتزويد النار.

 ثم في المرحلة الثالثة، تُشعل النار داخل البناء، وتبقى مشتعلة وحامية بشكل متواصل لمدة 24 ساعة، ولمدة عدة أيام، ويلعب حجم "التشبارة" وكمية الحجارة فيها الدور الرئيسي المحدد للفترة الزمنية التي يجب إبقاء النار فيها مشتعلة، ومهما يكن فالمُحدد لنهاية العملية هو مراقبة الحجارة خلال الاحتراق؛ حيث تتحول إلى اللون الأسود في بدايات العملية، ثم إلى اللون الأحمر، ثم إلى اللون الأبيض، وهو المؤشر لنجاح العملية ونهايتها، فيتوقف العاملون عن تزويد النار بالنتش.

وتستدعي هذه العملية استنفارًا تامًا من النساء اللواتي ينهمكن في توفير الطعام والماء للرجال في موقع العمل، كما أن عمل الرجال يتم ضمن فريق من الشركاء أو المعاونين، للتناوب على العمل ليلاً ونهارًا لإذكاء النار، وبسبب المشقة الناتجة عن ذلك، وقد تستمر عملية جلب النتش والحطب خلال أيام اشتعال "التشبارة".

رابع المراحل وآخرها، تُترك فيها الحجارة أيامًا لتبرد، وقد تكون هذه المدة 23 يومًا، ثم تُطحن الحجارة، وتُنخل لإزالة الشوائب، ويتم تعبئتها في أوعية محكمة، وتُنقل لتُباع في سوق نابلس أو القرى المجاورة. وقد ورد أن التشبارة الواحدة يمكن أن تنتج ما مقداره ثمانية قناطير، أي ما يعادل 2400 كغم من الشيد، ويباع القنطار الواحد منها بمبلغ 25 قرشًا في العام 1869م على سبيل المثال، مع ملاحظة مستوى الحياة اليومية البالغ آنذاك ما بين 1.5 – 3 قروش.

ويشار إلى الشيد عند بيعه فيقال: "سبعة قناطير شيد خالي من البندوق [حجارة غير مطحونة] والسمقة والتراب". ويشار للمكيال المتعارف عليه، ولمكان التسليم أيضًا، نظرًا لتكاليف وجهود النقل آنذاك فيقال: "سبعة عشر قنطار شيد بعيار نابلس واردين أليها نظيف".

ويُستخدم مكيال الرطل (3 كغم) عند تحديد وزن الشيد لبيعه، كما يُستخدم القنطار (300 كغم). وفي حالات توفر الشيد بكميات فائضة، فإنه يُخزن في آبار خاصة لحين وقت البيع، وليس أدل على ذلك من أن حارة في بلدة بيت فوريك قضاء نابلس، اسمها حارة بير الشيد.

كان إنتاج الشيد يحقق اكتفاءً ذاتيًا بالنسبة للفلاحين، وكانت عملية إنتاجه تجري بالتعاون بين تجار من المدينة وفلاحين

وكان الشيد مادة أساسية للبناء والتجارة والعمل، اعتمد عليها الفلاحون للحصول على النقد، فكان التاجر من المدينة يشارك الفلاح فيها، فيقدم التاجر المال، ويقدم الفلاح العمل. وكانت "التشبارة" تُعمل لحساب تجار آخرين، أو يُقبض الثمن قبل إتمام العملية، وفقًا لما يُعرف بـ"السَّلَم الشرعي"، حيث يدفع تاجر المدينة ثمن الشيد لفرد أو أكثر من الفلاحين نقدًا، مقابل حصوله على مادة الشيد بعد فترة زمنية محددة يتفق عليه الطرفان.

وتعبر العملية برمتها عن نمط اقتصادي بسيط وثابت في المجتمع آنذاك؛ قوامه الاعتماد على الذات في استخدام مكونات البيئة المحيطة بهدف توفير مادة الشيد لتغطية متطلبات البناء، وقد كان متعارفًا عليها في كل فلسطين وإن تخصصت بها مناطق وقرى معينة دون غيرها، فنجد مثلاً قرى سالم وعزموط وبيت فوريك وروجيب إلى الشرق من نابلس، اشتهرت بهذه الصناعة.

وكان من الطبيعي وجود عدد من "التشبابير" في القرية الواحدة، ومهما يكن فقد غطت هذه الصناعة التحويلية في القرى حاجات السوق محليًا على مستوى القرية ذاتها، والقرى المجاورة، ومدينة نابلس ونواحيها الأخرى، وقد حققت الاكتفاء الذاتي، وبالتالي لم يكن هناك حاجة لاستيراد هذه المادة أو بديلها.


اقرأ/ي أيضًا: 

بالصور | قرية كور وحنينٌ لأيام عز

زواج فلسطينيات وإنجابهن.. الماء وسيطًا

أبو قاسم وحريمه في الموروث الشعبي

الكلمات المفتاحية

المسار المتشابك.. صدور كتاب جديد يوثّق سيرة صلاح خلف

المسار المتشابك.. صدور كتاب جديد يوثّق سيرة صلاح خلف

يقدّم الكتاب قراءة تحليلية معمقة لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال سيرة أحد أبرز رموزها


وكالة أنباء إيطالية تُنهي عمل صحفي بعد سؤاله عن دفع إسرائيل تكاليف إعادة إعمار غزة

وكالة أنباء إيطالية تُنهي عمل صحفي بعد سؤاله عن دفع إسرائيل تكاليف إعادة إعمار غزة

أكد المتحدث باسم وكالة "نوفا"، فرانشيسكو تشيفيتا، أن قرار إنهاء العقد جاء بسبب سؤال نونزياتي


دراسة تكشف: جامعة أكسفورد تستثمر في شركات متورطة بأنشطة إسرائيلية غير قانونية

دراسة تكشف: جامعة أكسفورد تستثمر في شركات متورطة بأنشطة إسرائيلية غير قانونية

استثمارات أكسفورد تُدار عبر صندوق لتتبع الأسهم طوّرته الجامعة عام 2020 بالتعاون مع شركة بلاك روك، أكبر مدير أصول في العالم، بهدف استبعاد الشركات العاملة في الوقود الأحفوري والأسلحة المثيرة للجدل


العنوان إصدارات ترشيد التربويّة تُطلق الجزء الثالث من مشروع "عبور التخصّصات والخِطابات: منهجيّات وتطبيقات في التعليم التكامليّ"

إصدارات ترشيد التربويّة تُطلق الجزء الثالث من مشروع "عبور التخصّصات والخِطابات: منهجيّات وتطبيقات في التعليم التكامليّ"

تُواصل إصدارات ترشيد التربويّة سعيها لتقديم محتوى علميٍّ ومهنيٍّ يسهم في تطوير الفكر التربويّ العربيّ، ويزوّد المعلّمين بالأدوات المفاهيميّة والتطبيقيّة لبناء بيئات تعلمٍ أكثر وعيًا وفاعليّة

 بينيت: نقل السيطرة الأمنية في غزة إلى قوات متعددة الجنسيات يعرّض أمن "إسرائيل" للخطر
أخبار

بينيت: نقل السيطرة الأمنية في غزة إلى قوات متعددة الجنسيات يعرّض أمن "إسرائيل" للخطر

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت، إن "نقل السيطرة الأمنية في غزة إلى قوات متعددة الجنسيات، بعضها معادٍ مثل تركيا، يعرّض أمن إسرائيل للخطر"

الضفة: اعتقال نحو 25 فلسطينيًا وهدم متنزه في بلدة القبيبة بالقدس
أخبار

الضفة: حملة اعتقالات واسعة وهدم منتزه في بلدة القبيبة بالقدس

شنت قوات الاحتلال اليوم الخميس حملة اعتقالات واسعة في مدن الضفة الغربية، تركزت في بلدة دورا جنوبي الخليل


مستوطنون يحرقون أجزاءً من مسجد في سلفيت ويخطّون شعارات عنصرية
أخبار

مستوطنون يحرقون أجزاءً من مسجد في سلفيت ويخطّون شعارات عنصرية

أفادت محافظة سلفيت بإقدام مجموعة من المستوطنين، فجر اليوم، على إحراق مسجد (الحاجة حميدة) في بلدة ديراستيا شمال غرب سلفيت، وخط شعارات عنصرية على جدرانه الخارجية

أطباء بلا حدود: الأوضاع في غزة ما زالت مزرية للغاية بعد شهر من الهدنة
أخبار

أطباء بلا حدود: الأوضاع في غزة ما زالت مزرية للغاية بعد شهر من الهدنة

الأوضاع المعيشية في قطاع غزة ما زالت كارثية، فالبنية التحتية الحيوية مدمّرة، والنزوح واسع النطاق، والمساعدات غير كافية

الأكثر قراءة

1
تقارير

اغتصاب وتعذيب جنسي.. محرّرو غزة يروون لـ"الترا فلسطين" فظائع السجون


2
تقارير

الجبهة الديمقراطية لـ"الترا فلسطين": مصر عرضت على الفصائل خطّة من 5 بنود وهذه تفاصيلها


3
تقارير

داخل صندوق أسود: هكذا تُدار الدبلوماسية الفلسطينية


4
تقارير

خاص | الترا فلسطين يحصل على نصّ وثيقة الخطوات التنفيذية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة


5
راصد

توني بلير.. سيرة إداري للإيجار