05-يوليو-2017

صورة تعبيريّة: ABBAS MOMANI/AFP/Getty Images

لايزال مشهد المرأة الفلسطينية التي ترتدي ثوبًا مطرزًا وتحمل جرة الماء على نبعة؛ حاضرًا في الذاكرة، لما يحمله من دلالات اجتماعية متوارثة. لكن تلك الصورة للمرأة الفلسطينية كانت تتجاوز كونها استجابة وظيفية للمرأة في الغسيل وتنظيف الأواني، فارتداؤها للثوب الذي يحمل تطريزات متعرجة تشبه انسياب الينابيع، و"تمخترها" مع جرة مياه فوق رأسها بدون "مدورة" لم يكن عبثًا، إنما كانت تعلن من خلاله حاجتها للزواج، وتكشف عن صدرها أمام الينابيع وتطلب الزواج من الماء!

يا بتجوزني يا بتوخدني!

ارتباط المرأة بالماء في الموروث الشعبي، يفوق أي ارتباط آخر للماء حتى في عالم الأساطير، فالماء والمرأة منبعان للخير، وقديمًا كانت تقدم المرأة قربانا للنبع الغزير بالمياه. والمرأة الفلسطينية بشكل خاص كانت تستخدم الينابيع لطلب الحاجة وتلبية الرغبات.

كانت الفلسطينيات يقصدن الماء كاشفات عن صدورهن والإنشاد له طالباتٍ تزويجهن أو منحهن الأطفال

يقول الباحث في شؤون الدراسات الشعبية إحسان الديك: "كانت المرأة الفلسطينية شديدة الحرص على التوجه للينابيع في الفترات الصباحية، وخاصة من فاتهن قطار الزواج، باعتبار الماء هو منح عطاء مثل ماء أيوب في القدس، الذي تزدحم فيه النساء سنويا".

اقرأ/ي أيضًا: شقائق النعمان.. أسطورة الدم والحب

واذا كانت المعتقدات الشعبية تعزو شفاء النبي أيوب إلى اغتساله بماء البحر، فإن النساء ما زلن يقصدنه كاشفات عن صدورهن. وأوردت دراسة أجراها توفيق كنعان في الفلكلور الفلسطيني، أن النساء كن ينشدن:

يا بحر جيتك زايرة ... من كتر ما انا بايرة

كل البنات تجوزن ... وانا على شطك دايرة

وفي رواية أخرى للمقطع الثاني "يا بتجوزني با بتوخدني "

وتتوجه النساء إلى بئر أيوب (القدس) مع غروب الشمس في يوم الثلاثاء، وإلى بحر غزة لزيادة البركة، ويعتكفن بانتظار هذه اللحظة للسباحة.

منح خصوبة أم جفاف؟

وبحسب الموروثات الشعبية، فإن الطبيعة قد تهب خصبها للفتيات ليكن أكثر جمالا؛ إذ تذهب فيه الفتيات غير المتزوجات إلى البرية؛ لجمع الأزهار التي يتركنها في الماء تحت نجوم السماء طوال الليل، ثم تغسل كل فتاة شعر رأسها بذلك الماء الذي يهب شعرها الجمال والخصب.

ومن الأمثلة على الخصوبة التي يمنحها الماء للمرأة أيضًا، قصة جبينة التي لا تعود للحياة إلا بعد غسلها بالماء، وإخراج المسمار من رجلها، فالمسمار أداة في يد الشر، والماء أداة في يد المرأة التي غسلتها.

في الموروث الشعبي الفلسطيني، تهب الطبيعة المرأة جمالاً وخصبًا أحيانًا، ونحسًا ولعنة أحيانًا أخرى

وفي أحيان أخرى تهب الطبيعية "لعنتها" المرتبطة، فقد يكون وجود المرأة "نحسًا" يجعل الجن الذي يسكن الماء يجفف الينابيع، كما في دراسة ليحيى جبر عن الأدب الشعبي الفلسطيني، خاصة إذا اقتربت منها "امرأة غير طاهرة". وقد ورد في جفنا شمال رام الله، أن القسيس يذهب إلى البئر الجاف، فيتلو الدعاء ويحرق البخور ليسترضي الجنية، أو يجبرها على إطلاق سبيل الماء.

يا بحر ما أجاني ولد!

ولا تخلو حياة ما بعد زواج الفلسطينية من أسئلة مثل "مش مخبية جوّا؟" "أجتك الدورة؟"، والمقصود هنا التأكد من حدوث حملٍ أو تأخر ذلك. وإذا كانت الإجابة بالنفي، تبدأ رحلة طويلة إلى الشيوخ، والأدعية، لكن الدعاء أمام البحر كانت له نكهة خاصة تحدثت عنها الموروثات الشعبية. ومما كانت النساء ينشدنه أمام البحر:

يا بحر راسي عريانة ... بدي ولد يغطيها

وان ما جاني ولد ... لأقد ثوبي وارميها

وكانت النساء يفضلن إنجاب الذكور، بل ويشترطن ذلك في الدعاء للمرأة التي لم تنجب الصبيان منشدات:

رب البحر والسما ... تفك عسيرها

وتعطيها صبي ... ينور حصيرها

رب البحر والسما ... تحل عقدتها

وتعطيها صبي ... يزين حارتها

ولكن تلك الأناشيد لم تعد مستحسنه عند المرأة الفلسطينية في صورتها الحالية، حيث يقلن ردًا عليها: "عُمْر الدعوة ما خرقت قميص، ولا غنية جوزت عريس".

احتفالات نيسان

وكانت النساء يحرصن على حضور المواسم الفلسطينية التي تقام في شهر نيسان بجانب الأنهار والمياه والبحر، مثل موسم روبين في يافا. يتحدث الباحث إحسان الديك عن موسم روبين قائلاً: "يبدأ الكثيرون من جمع أنحاء فلسطين، حتى بدو النقب الذين يأخذون خيامهم ويضربونها في تلك المنطقة، للمشاركة في سباق الخيل والفنون الطرب كافة، وأهم حاجة هي رؤية النساء الحضريات والتغزل بهن، وهذا ما يؤدي إلى الزواج في كثير من الأحيان".

اهتمت نساء فلسطين بحضور المواسم السنوية، خاصة تلك المرتبطة بالماء، وفي بعض هذه المواسم يُكتب لكثير من النساء الزواج

وتصر النساء، وبشكل خاص نساء يافا، على حضور احتفالات نيسان التي يرافقها نزولهن إلى الماء والاستحمام، فمثلا تصرّ المرأة اليافاوية على حضور احتفالات موسم روبين، فتقول لزوجها: "يا تروبنّي يا طلقني" .

وهناك الكثير من المواسم الأخرى التي كانت تقام في فلسطين، مثل موسم وادي النمل، وموسم الخضر في حيفا والكرمل، وأربعة  أيام أيوب الذي تستحم فيه النساء، ويفركن أجسادهن أحيانًا بنباتٍ أخضر؛ لما لذلك من دور في إعطاء الجمال والخصب والحياة، والتمتع بالطبيعة.

وعلى الرغم من زخامة الطقوس التي كانت النساء الفلسطينيات يخاطبن بها الماء لطلب الزواج أو الإنجاب أو الجمال، إلا أن وجود التقنيات الحديثة وظهور ما يسمى بالمرأة العصرية، لم يبقِ لصورة المرأة التي تحمل الجرة بجانب النبع مكانًا إلا في زاوية معرضٍ للتراث الشعبي في رام الله!


اقرأ/ي أيضًا: 

بربارة.. أسطورة القداسة

أبو قاسم وحريمه في الموروث الشعبي

واد صوانيت: سحر النرجس وصدى ابتهالات الرهبان