04-يوليو-2023
جرافة D-9

بينما كان "البلدوزر" أريئيل شارون في رئاسة وزراء دولة الاحتلال في سنوات الانتفاضة الثانية، ببرنامج أساسه القتل والعدوان، كان أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة يختبرون "البلدوزر" الفعلي، المعروفة باسم جرافة D-9، التي لعبت دورًا كبيرًا في الانتفاضة الثانية، وبالأخص خلال اجتياح نيسان 2002. ولهذه الجرافة تاريخ طويل خلال الانتفاضة وبعدها، وكانت واحدة من أبرز الصور التي شاهدها العالم استشهاد المتضامنة الأمريكية راشيل كوري، تحت أنقاض أحد المنازل الذي دمرته D-9.

الفلسطينيون يعرفون جرافة D-9 بوصفها "الوحش" الذي يلتهم منازلهم وطرقاتهم خلال دقائق، فيما يطلق عليها جيش الاحتلال اسم "دوبي".

تعود D-9 إلى الصورة مرةً أخرى  بعد 20 عامًا من تدميرها الكامل لمخيم جنين وشبكات المياه والكهرباء في عموم الضفة الغربية. وفي حيز ضيق، وداخل المخيم، فإن وجود هذه الجرافة يعني أن الهدف هو الدمار بهدف التدمير لذاته فقط.

وجرافة D-9 التي يستخدمها جيش الاحتلال منذ منتصف الخمسينات بنسخها المتعددة، هي النسخة العسكرية والمصفحة من جرافة Caterpillar D9 الأمريكية. الجرافة وصلت لدولة الاحتلال أول مرة في منتصف الخمسينات، من أجل استخدامها في أعمال البناء، ولكنها وككل ما يصل إلى "إسرائيل" وجدت طريقها إلى جيش الاحتلال.

وحش إسرائيل

يشغل الجرافة الضخمة سلاح الهندسة في جيش الاحتلال، ويمتلك الجيش الإسرائيلي عدة نماذج منها، كما أنه قام بتحصينها بشكلٍ أكبر، مع تثبيت نظام دفاعي من الصواريخ، بالإضافة إلى إمكانية تثبيت سلاح رشاش عليها، فيما تزن الدبابة حوالي 56 إلى 70 طنًا.

ويعمل على الدبابة الجنود الذين اجتازوا دورة القوات الخاصة في الهندسة العسكرية الإسرائيلية، ويقوم عليها سائق وقائد لها، والأخير هو المسؤول عن الاتصال والمراقبة واستخدام المدفع الرشاش المثبت عليها.

وتستخدم الجرافة من قبل جيش الاحتلال في "اختراق المحاور، وفتح الطرق، وإزالة الألغام، وسحب المركبات التالفة، والتغطية على جنود جيش الاحتلال، وكشف الطرق لقوات الاحتلال، وتدمير البنى التحتية والتحصينات، بالإضافة إلى فتح الطرق في المناطق الحضرية وهدم المباني تحت النيران".

نشطت جرافة D- 9 منذ حرب حزيران/ يونيو 1967، وصولًا إلى حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وكانت أول مركبة تصل إلى جبل الشيخ، وتمكنت من السيطرة على القمة الاستراتيجية.

الأهمية الكبرى للجرافة، جاءت مع احتلال لبنان في عام 1982 وصولًا إلى عام 2000، حيث كانت السلاح الإسرائيلي الأبرز طوال سنوات الاحتلال.

واستخدمت الجرافة بشكلٍ واسع وكبير خلال الانتفاضة الثانية داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبحت "الأداة الرئيسية طوال عدوان الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة" خلال سنوات الانتفاضة. واستمر استخدام الجرافة المدرعة في الإجراء العسكري المعروف باسم "طنجرة الضغط"، والذي يقوم على فكرة محاصرة المقاوم داخل بناية، والاشتباك معه، ومن ثم إطلاق الصواريخ على نوافذ المنزل، قبل وصول الجرافة وتدمير جدرانه على من فيه.

ورغم تفاخر الاحتلال لفترة طويلة بعدم مقتل أي جندي استخدم D-9 داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، إلّا أن ذلك لم يطل كثيرًا، حيث قتل طاقم الجرافة بصواريخ مضادة للدبابات خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014.

جرافة D-9 وجنين

واستخدمت الجرافة بشكلٍ أساسي داخل المدن ومخيمات اللاجئين، وقامت بتدمير الطرق والمباني، والكشف عن العبوات الناسفة، بالإضافة إلى هدم منازل الفلسطينيين الذين نفذوا عمليات ضد الاحتلال. كما تكثف استخدامها في تجريف حدود شمال قطاع غزة، وذلك بهدف كشف المنطقة، ومنع عمليات إطلاق الصواريخ منها تجاه المستوطنات الإسرائيلية.

ومنذ اجتياح نيسان 2002 (المعروف إسرائيليًا باسم السور الواقي)، أصبحت جرافة D- 9 المدرعة جزءًا هامًا من عقيدة جيش الاحتلال للحرب في المناطق الحضرية والمأهولة، حيث عملت بشكلٍ بارز في مخيم جنين وفي رفح (أثناء عملية قوس قزح أيار/ مايو 2004). وتنظر تقديرات عسكرية إسرائيلية إلى أن الجرافة المدرعة هي أحد العوامل الرئيسية المسؤولة عن العدد القليل من الإصابات في صفوف جيش الاحتلال أثناء الانتفاضة الثانية.

دخلت جرافة D- 9 إلى مخيم جنين، بعد ما يقارب الأسبوع منذ بداية الاجتياح في مطلع نيسان/ أبريل 2002، ويُنظر لها باعتبارها العامل الذي حسم المعركة.

كان استخدام جرافة D-9 في البداية من أجل فتح المحاور والطرق المغلقة، بالإضافة إلى نقل الأغذية والمعدات للجنود داخل المخيم، لكن استخدامها تكثف بعد وقوع كمين 13، وصولًا إلى منحها الأوامر بهدم مربعات كاملة من المنازل، وفق المؤرخ العسكري الإسرائيلي ييجيل هينكين.

وخلال المعركة داخل مخيم جنين، اعتمدت الخطة بشكلٍ كبير على الجرافة، حيث وضع أوفيك بوخريس قائد كتيبة من لواء جولاني خطة تقوم على تقدم جرافات D-9 جنود جيش الاحتلال داخل المخيم، ويشار إسرائيليًا إلى أن التحول الحاسم في استخدام الجرافات، انعكس بقتلها القيادي في الجهاد الإسلامي محمود طوالبة، بالإضافة إلى تدمير حي الحواشين، الذي أشير إلى تحصن معظم المقاومين في داخله.

ووفق تقديرات حقوقية، فإن جرافة D-9 كانت مسؤولة عن هدم 140 منزلًا في مخيم جنين، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية فيه بشكلٍ كامل. ورغم ذلك، تمكنت المقاومة في مخيم جنين من تعطيل جرافة باستخدام عبوة ضخمة، خلال اجتياح 2002.

"سائق الجرافة"

تكشف  شهادة سائق إحدى الجرافات في اجتياح المخيم عام 2002 جرائم جرافة D- 9، والمعروف باسم موشيه نسيم، والذي يسرد بشاعة الاحتلال في صورتها الأوضح. يتحدث موشيه نسيم بلذة عن تدمير المنازل في مخيم جنين، واصفًا تدميره للمخيم بـ"العمل المثير"، ويشير إلى أنه لم يتدرب على الجرافة سوى ساعتين، قائلًا: "تدريب يكفي لسياقة الجرافة وتسوية الأرض".

ويصف نسيم الذي تفاخر بمشاركته في الهجوم جرافته بـ"الوحش"، مشيرًا إلى أنه كان يستجدي قادته من أجل الاستمرار في تهديم المنازل، قائلًا: "كنت أستجدي تكليفي بعمل ما: دعوني أنهي بيتًا آخر، أفتح طريقًا آخر".

استمر موشيه نسيم في تدمير المخيم لمدة 75 ساعة وكان يرفض أخذ أي استراحة من قادته. وحول قدرته على التدمير طوال هذا الوقت، يقول: "أتعرفون كيف صمدت 75 ساعة؟ لم أنزل من الجرافة، لم تكن عندي مشكلة تعب، لأني كنت أشرب الويسكي طوال الوقت، كنت أحتفظ بزجاجة في الجرافة... الجميع أخذوا ثيابًا معهم، أمّا أنا فأخذت الويسكي وقليلًا من الطعام"، ويضيف "ثياب؟ لم يكن لي حاجة بها، كانت تكفيني منشفة".

يعرض الجندي سائق الجرافة جرائم جيش الاحتلال بكل وضوح، ويرد على سؤال "ما معنى فتح طريق؟ [أي في المخيم]": "معناه مسح مبانٍ على الجانبين، لا يوجد خيار آخر، لأن الجرافة أعرض جدًا من أزقة المخيم، لكنني لا أبحث عن أعذار، لم أكترث قط لهدم كل البيوت التي هدمتها، وقد قدمت الكثير. في النهاية، أنشأت ملعب كرة قدم هناك".

وعن جرائمه، يرد الجندي ذاته على سؤال "هل هذا صعب؟"، بالقول "كلا إطلاقًا. لا بد من أنك تمزح، أردت تدمير كل شيء، رجوت الضباط بواسطة اللاسلكي أن يسمحوا لي بهدم المخيم كله، من أوله إلى آخره"، ويضيف "لم يرفض أي شخص أمرًا بهدم أي منزل، لا يوجد شيء كهذا، عندما كان يُطلب مني هدم منزل ما، كنت أغتنم الفرصة لهدم بضعة منازل أخرى".

يلخص الجندي العدوان الإسرائيلي على جنين في عام 2002 بالقول: "أمضيت ثلاثة أيام وأنا أهدم وأهدم فقط"، ويتابع في موضع آخر من المقابلة، قائلًا: "كثيرون من الناس كانوا داخل المنازل التي بدأنا تدميرها. كانوا يخرجون من المنازل بينما نحن نعمل على تدميرها. لم أر بعيني أناسًا يموتون تحت سكة الجرافة، ولم أر منزلًا يسقط على أناس قيد الحياة، لكن لو كان هناك أحد لما اكترثت لذلك البتة. أنا [الجندي] على يقين من أن أناسًا ماتوا داخل تلك المنازل... كل بيت كنت أهدمه كان يبعث السرور في نفسي، وإذا كنت آسفًا على شيء فأسفي هو على عدم هدم المخيم بأكمله".

ويستمر بالكشف عن "نشوته" في تدمير المخيم، بالقول: "لم أتوقف لحظة واحدة. حتى عندما كان يحين موعد الاستراحة لساعتين كنت أصر على الاستمرار"، مشيرًا إلى أنه في إحدى عمليات الهدم كاد أن يسقط منزلًا على جنود جيش الاحتلال الذين تحصنوا داخله.

ويقول في ذات الشهادة: "كنت في غاية الرضى. استمتعت بذلك حقًا... لم أستطع التوقف. كنت أريد أن أعمل وأعمل، كان هناك ضابط من لواء غولاني يصدر الأوامر إلينا باللاسلكي، لقد دفعته إلى الجنون، كنت أطلب تكليفي بالمزيد والمزيد من المهمات"، وبعد سحبه من جنين، قال: "في اليوم التالي رجعت ثانية، كان أحد الرجال مريضًا فتطوعت للمساعدة، عدت إلى هناك، وعندما رآني قائد الكتيبة أصيب بالصدمة. سائقو الجرافات الآخرون أصيبوا جميعًا بالانهيار وكانوا بحاجة إلى الراحة. أنا أردت المزيد".