بدا قلِقًا جدًا، لقد كرر الأستاذ علي عبد الجوّاد السؤال نفسَه على طلاب توجيهي (4) أكثر من مرةٍ: "فتحي غايب من يومين؟ حد بيعرف ليش؟"، يرُدُّ أحدهم بصوتٍ منخفض: "أخبرَني أنه يعاني من ضيق التنفس قبل أسبوع". الإجابات الباهتة لا تقنعه عادةً لكنه اكتفى بهزِّ رأسه.
15 يومًا مرّت ومقعد فتحي الدِربي فارغٌ إلا من ذِكر الأستاذ علي لهُ بالخير كلما مرَّ بقربه. لم يعُد يسأل عن سرِّ غيابه بعد أن عرف أنه أجرى عملية جراحيةً عاجلة من والده الذي أتى متأبِّطًا تقرير الطبيب. مضت مهلة الوجع طويلةً وعادَ فتحي. همَسَ في أذنه صديق: "ألست قلقًا من ضياع كل تلك الدروس عليك؟" ابتسمَ وردَّ :"تذكّر أن الله ألطفُ بنا من ما نتخيل".
الأستاذ علي، "أستاذ الفقراء" كما يلقبه أهالي مدينة رفح، استُشهد عندما كان يجهز ملزمة الأسئلة التي يفترض أن يذاكرها طلبته
عرف الطلاب بعد ذلك أن الأستاذ علي طوال فترة غياب فتحي كان يزوره في بيته بانتظامٍ ليشرح له دروس اللغة الإنجليزية تمامًا كما يشرحها للأربعين طالبًا في الصف نفسه! بل كان قد نسّقَ مع أساتذة باقي المواد، كي يزوروه أو يبتعثوا موفدين عنهم من الطلبة المميزين لشرح الدروس له أولًا بأول. عندما قال له فتحي مرةً: "أتعبتك معي"، أجابه: "من يدري، لعل الله يهديني بها الفرج".
الأستاذ علي لم يعد هنا! "أستاذ الفقراء" كما يلقبه أهالي مدينة رفح استُشهِد في اليوم الثاني من العدوان الأخير على قطاع غزة (5 أيار/مايو 2019) عندما كان يجهّزُ ملزمةَ الأسئلة التي يفترض أن يذاكرها طلبته من رواد مركزه "الأوائل" الذي يعطي فيه دروسًا إضافية، بعد أن باغته هناك صاروخٌ حربيٌ نسفَ "العمر" و"تعب العمر" كله.
اقرأ/ي أيضًا: الشهيدان أبو جامع.. رحمتهما انتهت بهما لموتٍ مروع
فتحي ومئات الطلبة الذين علّمهم الأستاذ علي تباعًا في مدرسة بئر السبع الثانوية للبنين منذ عام 1990، حملوا نعشه ومروا به في باحتها مسجًى، وبكوا كثيرًا "صخب ضحكاته" التي لن تعود.
أستاذ الفقراء
لم يكن لدى الأستاذ علي أحلامًا مستعصية عندما قرر قبل خمس سنواتٍ أن يفتتح برفقة صديق العمر والوظيفة مدرس الفيزياء داوود المشوخي، مركزًا أسمياه "الأوائل" في مدينة رفح حيث يسكنان. كان يحلم ببيتٍ أكبر من مساحة الأمتار المئة التي يعيش فيها أفراد أسرته السبعة، وأرضًا صغيرةً قربها يزرع فيها النعناع ليشربه مع الشاي عصرًا بعد التقاعد.
في "الأوائل" كان علي وداوود يقدمان دروس التقوية لطلبة الثانوية العامة على مدار العام. وكان فتحي -بطل المقدمة- ضيفًا دائمًا هناك، كان يزوره لينصت إلى صرير حكمته عندما كانت تواجهه مطبات الحياة.
"عندما كان يعرف عن أحدنا أنه ارتكب خطأ ما: عاكَسَ فتاةً في الشارع، أو جرّب سيجارة مثلًا، كان يقف في الصف ليخبرنا قصة تتضمن نفس الحدث أو التجاوز الذي ارتكبه الشخص، لكن باسمٍ مستعارٍ يختاره هو ليجنبنا الشك بأي زميلٍ لنا، يروي القصة ويعطي العبرة، ويختم قوله بعبارة: أنتم بالنسبة لي مخيرون، شكّلوا قناعاتكم بأيديكم، لكن خذوا بعين الاعتبار نصيحة أبيكم"، يقول فتحي، ويزيد، "كان يضع يده على صدره ويربّت مرتين ثم يتمتم.. أبوكم أنا".
الأستاذ علي (55 عامًا)، ومنذ بدأ يعمل في مركز الأوائل، كان يتحسس أخبار الطلبة المتعففين، فيتحدث مع كل واحدٍ منهم على حدة، ويسأله بالله أن يزور المركز لحضور دروس التقوية دون أن يأخذ بالاعتبار همّ دفع أي شيقل أبدًا. "يضمه إلى مجموعةٍ من المجموعات الصفّية غير آبهٍ بانتقادات المحيطين به، "حتى الطلاب المسجلين عنده، كان يكتفي منهم بـ 40 أو 50 شيقلًا في الوقت الذي كان فيه سعر الدروس الخاصة في غزة يتجاوز ال 70 وأحيانًا الـ 100، ومن يتأخر في الدفع لا يسأله ولو مرّت أشهر، فلولا أن أهله في ضيقٍ لما تأخر". هذا ما قاله عصام عدوان أحد طلابه الذين حضروا الجنازة.
الأستاذ علي عبد الجواد لم يحمل عصا يومًا، كان يعمل وفق قاعدة النصيحة في العلن فضيحة
وتابع، "لم يشهد التاريخ أن الأستاذ علي حمل في يومٍ عصا، لم يؤنب طالبًا ولم يعاقبه أو يهينه كما حال بعض الأساتذة، كان يعمل وفق قاعدة النصيحة في العلن فضيحة، فيهمس التربية في الأذن همسًا".
خيرٌ خارج الصندوق
كان المركز يستقبل الفتية والفتيات من طلبة الثانوية العامة، ولهذا فإن الجيل الذي تخرج العام الماضي من الجامعة في رفح "حتى من الفتيات" كلهن يعرفنه.
تقول طالبته ميسون حرب: "حتى الملزمة التي يفترض أنها خاصة للطلبة المسجلين في المركز حسب ما اعتاد المدرسون هنا، كان يأتي بها إلى المدرسة، ويقدمها للطلبة كي يصوّروها لأنه يعرف تمامًا أن فيهم من لا يستطيع التسجيل في مركزه لصعوبة أوضاعه المالية".
جبّارٌ للخاطر
صديقه داوود المشوخي، وشريكه في المركز كان بالكاد يستطيع التقاط أنفاسه وهو يتكلم عن علي، عرفَه منذ 24 عامًا كزميلٍ في مدرسة بئر السبع، ثم صديقًا ومِحفظةً للسر والهمّ، لا يصدق أنه لن يراه بعد الآن يضحك! لن يسمعه يناديه كلما التقاه بـ: "وين يا ملك؟".
يقول: "علي المُجتهد، عاش حياته مكافحًا لأجل تحقيق حلمه في تملك بيت، كان يعود إلى بيته بعد دوام المدرسة لتناول طعام الغداء، ثم ينتقل إلى المركز مباشرةً حتى السابعة مساءً، ويترك لنفسه ساعة إضافية أو ساعتين لاستقبال المتعففين من الطلبة، أو حتى ضعيفي الفهم للاستزادة. وهذه الفترة كان يقدمها قربانًا لله عن نفسه وماله وأهل بيته".
الأستاذ علي عبد الجواد عاش حياته مكافحًا لتحقيق حلمه في تملك بيته، واستشهد قبل أن يكتمل حلمه
اشترى داوود وعلي أرضًا واحدةً مؤخرًا، واتفقا أن يصبحا جارين أيضًا. بنى داوود بيته، وبنى علي صرح الحلم الذي لم يكتمل، الفرق أنه وجد نفسه بعد كل ذلك العناء يستدين ليكمل بناء بيته الجديد. وهذا ما لا يعرفه سكان رفح عنه، سيما أولئك الذين يطلبون منه المساعدة المالية "على اعتبار أنه مليونير. صاحب وظيفةٍ وعملٍ خاص".
اقرأ/ي أيضًا: أحمد جرار.. هبت روايح الجنة
"قبل فترةٍ وجيزةٍ أتاني يرتدي ثوب الهمّ على غير العادة، جلس يخبرني -ونحنُ معتادان على تبادل الهموم- عن قريبٍ قصَدَه بمبلغٍ من المال لأنه على شفا عرسه، المبلغ لم يكن هيّنًا، وكنتُ أعرفُ جيدًا أنه لم يملكه في ذلك الوقت". يقول المشوخي: "ضحكتُ ووضعت يدي على كتفه: هو هادا اللي مزعلك، خلص لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والظروف صعبة على الجميع، قال لي: من قال إنني لم أعطه المبلغ؟!".
لقد استدان علي المبلغ من قريبٍ آخر، وأعطاه للأول، وهذا ما دفع المشوخي لحظتها لمخاطبته بغضب: "كيف تحيا غدًا؟" أجابه: "ما شأني بالغد؟ هذه الفكرة لا تراودني أصلاً، فأنا أعرف تمامًا معنى: جبر الخواطر على الله".
يمر الأستاذ داوود على ثالث أيام العزاء يتبعه في الليل صمتُه، يجلس في زاويةٍ وحده بالقرب من أبناء صديقه الذكور الثلاثة يربّت على أكتافهم، وهو الذي يحتاج إلى علي في مثل هذه اللحظات يربّت على كتفه. "عليٌ الذي كان حضوره حياة صار غيابه بمثابة موتين وأكثر. يفكر المشوخي بآخر عبارةٍ قالها له ضاحكًا وهو يغادر المركز قبل قصفه بدقائق بعد أن طلب منه المغادرة خشيةً من تدهور الأوضاع أكثر: "لو إلنا عمر.. راح نعيشه غصب عن اللي ما بده".
"بكرة الله بيوقف مع أولادي"
العدوان الأخير الذي استمر يومين بلغ 31 شهيدًا، بينهم 4 سيدات ورضيعتان وجنينان وطفل، ومنهن أماني المدهون (33 عامًا) المشرفة على قسم تدريب الطالبات في كلية المجتمع التابعة لجامعة الأقصى بغزة.
استشهاد أماني المعلمة والمربية كان يعني استشهاد جنينها الذي كاد أن يبصر النور بعد عدة أيام لولا ذلك الصاروخ اللعين. فالقصف الذي طال بيتها قرب المدرسة الأمريكية شمال غرب مدينة بيت لاهيا كان سببًا في ارتقائهما معًا برفقة سلفها عبد الله (22 عامًا)، وعمّها والد زوجها أكرم (61 عامًا)، وصهره فادي بدران (32 عامًا). في حين لا يدري أحد حتى هذه اللحظة ما قد يحلُّ بأطفالها الثلاثة أكرم وفاطمة ومحمود الذين أصيبوا بجراحٍ خطيرة.
أماني المدهون يشهد لها تاريخها التربوي أنها لم تتهرب من مساعدة طالباتها تحت بند القناعة الأول: "بكرة الله بيوقف مع أولادي"
أماني المحبوبة بين الطالبات اللاتي أشرفت عليهن على مدار أعوامٍ مضت، يشهد لها تاريخها التربوي أنها لم تتهرب من مساعدة واحدةٍ منهنَّ يومًا، تحت بند القناعة الأول: "بكرة الله بيوقف مع أولادي". ولو كنتَ صديقنا القارئ من سكان قطاع غزة لمررت بالتأكيد على أكثر من منشورٍ ينعاها "معلمةً فاضلة" وأمًّا وحسرةً في قلوب العاملين بسلك التعليم.
اقرأ/ي أيضًا: رزان النجار.. حلم فلسطيني آخر في قبر بلا شاهد
تقول الطالبة أمل الريفي: "ما قبل التخرج كان لا بد أن أخضع لتدريبٍ في مجال الإعلام بمعدل ساعاتٍ معينة لأتم متطلبات التخصص. مررتُ بظروفٍ خاصة، أعاقتني كثيرًا وتسببت بتقييمي سلبًا من طرف الأستاذ الذي كان مشرفي لولا تدخل الأستاذة أماني".
أماني طلبت ومن دون ترددٍ أن تصبح الطالبة تحت إشرافها "وديًا" وهذا ما حدث! تمكنت أماني من مساعدتها على تخطي كل الظروف التي مرت بها، واستكمال متطلب الدراسة. تُعلق أمل التي بكت بحرقة: "لن أنسَ لها هذا الفضل ما حييت، التقيتُها لأشكرها قبل استشهادها بيومين، كانت ابتسامتُها عذبة، ربّتت على قلبي بكلمات التشجيع، وأخبرتني أنني سأصبح شيئًا عظيمًا يومًا ما".
حسب وزارة التربية والتعليم، فإن عدد المدارس التي تضررت خلال آخر عدوان بلغ 13 مدرسة، بالإضافة إلى مراكز تقوية وأخرى تدريبية عديدة.
صواريخ الاحتلال تعرف طريقها، هي تعي جيدًا من اختارت ولماذا! أمثال علي وأماني يجب أن "يموتوا" تبعًا لحسابات إسرائيل التي تؤمن بأن الجهل أول ما أسقَطَ فلسطين، وأن المعلمين هنا كلهم "إرهابيون" عندما يسلّحون جيشًا يؤمن بالوطن بقذائف "التربية" ورصاص "التعليم".
اقرأ/ي أيضًا:
زقاق المخيم لن يضج بفطبول محمد أيوب بعد الآن
ماذا قال فنان البحر لصديقه قبل أن يستشهد؟