13-مايو-2016

وثائق ملكية للاجئ فلسطيني (Getty)

قبل أن تنزل دمعة "ثقيلة" من عينيه، نعى سليمان النامولي، 92 عامًا، نفسه بصوت حزين وخافت، قائلًا: "القدس.. القدس كانت بلا حرب.. صليت هناك مرة واحدة، وشاهدت الصخرة المعلَّقة، أريد أن أعود إلى فلسطين، هناك كل الخير".

يسكن "جزيرة فاضل" الآن أربعة آلاف فلسطيني وهو ما حوّلها  إلى "جزيرة مهجر"

قبل 68 عامًا من اليوم، سقطت أرض فلسطين وهُجّر الملايين من قراهم وأراضيهم، أصبحوا لاجئين في بلاد الله، من وصل إلى القاهرة كان عليه أن يجد أرضًا، أربعون منهم هربوا من مدينة "بئر السبع"، وشدّوا رحالهم إلى الطريق الزراعي المطلّ على مدينة "فاقوس" المصرية، حيث سور طيني طويل تحيط بـ"جزيرة فاضل"، التي يسكنها الآن أربعة آلاف فلسطيني، حتى تحوّلت إلى "جزيرة مهجر".

اقرأ/ أيضًا: صبرا وشاتيلا.. المسؤولون عن المجزرة 

طريق البحث عن لقمة العيش انتهى بهم، جميع من في القرية تقريبًا، إلى العمل في جمع القمامة، وتدويرها. لا يعرف أغلبهم من هو "فاضل"، الذي جذب الفلسطينيين لسكن قرية تحمل اسمه، لكنه لم يترك لهم شيئًا حسنًا يذكرونه به، فأربعة أجيال متعاقبة مرَّت من هنا تعاني الفقر والأمية والأوبئة وتنافس على لقب "الأكثر تخلفًا".

قوام القرية عدّة ممرات من الطوب الطيني، تفوح من الشوارع رائحة قمامة اعتادها أهل القرية ربما لأنها مصدر دخلهم الأول، خاصة أنها، عكس كل قرى دلتا مصر، خالية من "الماشية والطيور"، ولا تتاجر في المواشي.

تضم جزيرة فاضل، أكبر معمرة فلسطينية في مصر، السيدة ناصرة النامولي، تروي قصة الهجرة: "قبيلة آل النامولي، التي تنتمي إلى مدينة بئر السبع في فلسطين". وتضيف: "بعد أن قتل الجنود الصهاينة رجال قبيلتنا للقضاء على نسلها تمامًا، اتجه من تبقوا منهم إلى مصر، استقروا في بئر العبد بالعريش، حيث كان هناك بئر لا يزال اسمه على اسمهم حتى الآن، حتى علم بأمرهم مالك جزيرة فاضل، فاستضافهم على أرضه التي تبلغ 300 فدان، وبعد زيادة أعداد القبيلة، استحوذوا على الأرض من مالكها بالتقسيط". تكشف ناصرة من هو "فاضل": "محمد فاضل، مالك الجزيرة، وبقيت على اسمه عرفانًا بفضله الكبير على مهاجري فلسطين، لأنه كان يأخذ ماله بالتقسيط على سنوات طويلة.. لا كان متعنتًا، ولا طامعًا في قوتنا".

الهجرة الثانية للجزيرة، وفق العجوز الفلسطينية، كانت عام 1967، تقول: "حضرت أسرتان فقط لا يزيد عددهم عن عشرة أفراد". انتبه مهاجرو جزيرة فاضل إلى ضعف نمو القبيلة، التي تحتاج إلى سرعة النسل وغزارته لأسباب نفسية تتعلق بالحرب، و"العزوة"، وقد حرصوا على عدم الزواج من خارج القبيلة، أو من خارج الجنسية الفلسطينية.. هذا الأمر كان معمولًا به حتى فترة قريبة في الجزيرة، الجيلين الأول والثاني تحديدًا، لكن مع خروج الشباب إلى العمل في محافظات أخرى، انتهى الأمر إلى الزواج من مصريين ومصريات، وجنسيات شامية أخرى".

في هذا الموضوع، يتدخل عيد نصير النامولي، عمدة اللاجئين الفلسطينيين، ويقول: "أهل القرية يحثون على الإنجاب، لا يؤمنون بتحديد النسل، يريدون زيادة أعدادهم ليعودوا يومًا ما إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، فأقل أسرة لديها عشرة أطفال، ويصل الأمر أحيانًا إلى تسعة عشر. الإنجاب بالنسبة لهم عقيدة".

اقرأ/ أيضًا: فلسطين.. وليذهب الحاسوب إلى الجحيم!

بين طرقات القرية رجل يدعى "أبو ياسر"، في الخمسين من عمره، كوَّن قبيلة بمفرده من الأبناء والأحفاد، حيث بلغ عددهم 62 ابنًا وحفيدًا. وعن معاناة الأبناء يقول: "لم نستطع إرسالهم للعمل في أي مكان خارج مصر، السفر غير مسموح إلا للحج أو العمرة، ونحن لم نجد الطعام لنستطيع زيارة البيت الحرام. لدينا هدف آخر نسعى إليه".

على جدار كل بيت في "جزيرة فاضل"، خريطة فلسطين القديمة.. يحاول الفلسطيني أن يملأ نفس أولاده بها ويشحنهم للعودة يومًا ما

الأوضاع القانونية، بالنسبة إلى أهل جزيرة فاضل، مشوَّهة، وفي حاجة إلى تصحيح، وليس فقط منعهم من السفر للعمل بالخارج الذي يحتاج إلى تصحيح، ولكن هناك "الوثيقة المصرية للاجئين" التي تبخل عليهم بحق السفر أو الهجرة، أو الحياة كما يجب، وتستخدم كـ"قيْد" في تعاملاتهم، ويضيف "أبو ياسر": "ليدخل أحد أبنائنا المدرسة لا بد من توفير تصريح من الحاكم العسكري المصري لقطاع غزة وتصريح أخر من أمن الدولة وموافقة من الإدارة التعليمية بمديرية الزقازيق وبحث اجتماعي يثبت عدم قدرتنا علي إلحاقهم بمدرسة خاصة".

على جدار كل بيت في "جزيرة فاضل"، التي يطلقون عليها مجازًا "المخيم"، خريطة فلسطين القديمة.. يحاول الفلسطيني أن يملأ نفس أولاده بها، يشحنهم للعودة يومًا ما، ولا يزالون متمسكين بعادات من الأساسيات لديهم، لا تبدأ فقط بالأسماء الفلسطينية، ولا تنتهي بالأكلات الشامية، والزي الفلسطيني، والقهوة الفلسطينية، ورغيف الخبز البدوي.

إلى جانب خريطة فلسطين ترقد صورة ياسر عرفات، يرون أنها تغطي شرخًا كبيرًا في الجدار، ليس فقط لأسباب ترجع إلى كونه رمزًا فلسطينيًا أو رئيسًا سابقًا، إنما لأسباب سياسية أيضًا، وهي أن قبيلة "النامولي" تنتمي لحركة "فتح"، التي شارك في تأسيسها "عرفات"، ورغم ذلك لا زيارات رسمية من شخصيات بارزة إلى القرية، إسماعيل هنية حين كان في القاهرة للقاء مرسي دُعِي لزيارة خاطفة إلى هناك، لكن "جدول أعماله" لم يسمح. ويقول "النامولي": "السفارة الفلسطينية تنظم زيارات إلى الجزيرة، وعلى تواصل مع السكان.. لكن لا أحد غير السفارة يزورنا".

اقرأ/ أيضًا:

حيفا ويافا.. بحر الغائبين وبرّهم

الانتفاضة التي يريدها أبو مازن