02-أبريل-2018

الشهيد محمد النجار - صورة أرشيفية

على غير عادته كان صوت محمد في تلك الليلة ممزقًا، وهو الذي ظل دائمًا يتظاهر بالقوة في حضرة أخته آلاء، لكنه هذه المرة بكى. تجاوزت الساعة منتصف الليل بدقائق عندما دخل بيتها على استحياء، وطلب منها أن توقظ ابنها جمال (عام احد). نظرت إليه أخته بطرف عين وضحكت: "جمال؟ الآن!"، قال: "الآن"، ولم يضحك!

لما استشعرت نزيف قلبه جلَبَته له فعانقه طويلاً وأغمض عينيه، قال لها: "الأطفال أكبر نعمة في الدنيا، أمانة ديري بالك عليه". استنشق رائحة الصغير مجددًا، وصار يمسح على الذهب في لون شعره.

محمد النجار زار أخته ليلة استشهاده، عانق طفلها ومسح على شعره قائلاً: "الأطفال أكبر نعمة في الدنيا" وأوصاها به

"حبيبي يا محمد، أحلى زفة راح تكون إلك، وأحلى عروس، وأحلى أولاد إن شاء الله" قالت آلاء وهي تربّت على كتف أخيها الذي سأل: "وأظلم بنت الناس معي ليش؟". لم تُجبه في هذه المرة، فقد باتت تعرف أن أحلام الفراشات كلها هُراء فوق بِرك الوحل، لم تحاول كعادتها المسح على نُدبة الظُلم التي شقّت روحه منذ كان ابن سبعة عشر عامًا، اكتفت بذرف دمعة ودعوةٍ في ظهر الغيب "أن يزيح عن محمدٍ غمةً مقدارها تسع سنوات ونيف".

اقرأ/ي أيضًا: ماذا قال فنان البحر لصديقه قبل أن يستشهد؟

هل شاهدتم المقطع المصور للسيدة الغزّية التي طلبت من الأطباء أن يُخرِجوا ابنها الشهيد من ثلاجات الموتى خشيةً عليه من البرد هناك؟ حسنًا: ذاك هو محمد كمال النجار، المسجّى هناك مضرجًا بـالمسك، وهو شابٌ عمره (26 عامًا). تقول أمه: "لعله ارتاح الآن، متأكدة أن الله أنصفه"، بعد أن لم يتبقّ في حياته موطئ قدمٍ لأي خسارةٍ جديدة.

نحو نقطة صفر

حكاية محمد بدأت يوم كان فتى بعمر (17 عامًا)، يقود دراجته النارية في أحد أحياء الشجاعية شرق قطاع غزة، عندما باغته طفل قفز إلى الشارع فجأة فدهسَه. قطّب الأطباء جرحًا في رأس الطفل بثلاثة غُرز، وتكفّلَت عائلته (عائلة النجار) بمصاريف المستشفى حينذاك رغم ضيق الحال، إلا أن ما لم يكن في الحسبان حدَثْ: والد الطفل أصرّ على أن ابنه فقد 15% -حسب تقارير الأطباء- من قدرته على السمع بسبب الحادث.

منذ ذلك الحين، وحياة محمد بين السجن وبيته، على ذمة مالية يحبس وفقًا لها ثلاثة أشهر سنويًا، بعد أن حكم القضاء لأب الطفل بـمبلغ 66 ألف شيقل، أي ما يقارب الـ 20 ألف دولار في هذا الوقت.

كان محمد يُسجن 3 أشهر سنويًا، لعجزه عن الوفاء بذمة مالية ناتجة عن حادث دهس، إذ كان يعمل في تصليح إطارات السيارات

عائلة محمد المهجّرة من قرية القبيبة قضاء الرملة، تسكن معسكر جباليا للاجئين شمال قطاع غزة، في بيتٍ صغيرٍ، لا يكاد يحتوي أثاثًا يكفي كل أفراده. بينما كان محمد يعمل في أحد محلات تصليح إطارات السيارات بمعدل يوميَّة 10 إلى 15 شيقل، "فمن أين له بمبلغٍ كالمطلوب؟" تتساءل أمه (59 عامًا).

يخفق طُهرًا

تسعُ سنواتٍ كلما دنا موعد حضور الشرطة إلى بيت محمد، ترجع به الحياة ألف خطوةٍ نحو نقطة الصفر. تسع سنواتٍ وأمه تتوسل إلى الشرطة كل خميسٍ (خلال مدة الحبس) أن "أخرجوه اليوم فقط يتناول معنا غداء الجمعة ويعود". أحيانًا تسوق إليهم حججًا يبتسمون أمامها تعاطفًا كأن تقول ودموعها تنهمر: "والله يا حضرة الضابط، أمضيت الليل وأنا ألف أصابع الملفوف من أجله، إنه يحبه كثيرًا. لو كان لوالدتك عندك خاطر أخرجه لي اليوم وأعيده أنا لكم غدًا".

شاهد/ي أيضًا: فيديو | طفل البصل.. أيقونة أخرى لـ مسيرات العودة

كانت أمه تحمل له في قلبها حبًا لو وزعوه على البشر كلهم لفاض وانهمر. أما هو فكان يكتفي منها بـالرضا يناله بدعائها له قبل أن تسلم روحها لله كل مساء.

في ذات الليلة التي زار فيها محمد أخته آلاء، وقبل ساعاتٍ قليلة، دخل غرفة أمه على أطراف أصابعه، اقترب من فراشها ومسح على رأسها يهمس: "يما، يا أم إبراهيم"، فتحت أمه عينيها وابتسمت لوجهه الأسمر، سألها بنفس درجة الصوت: "تعشيتي؟"، أجابته: "الحمد لله"، فقبّل يدها وقال: "جبتلك شاورما"، ضحكت وأخبرته بأن بطنها ممتلئ، فأقسم أنه لن يأكل إذا لم تقم وتشاركه الطعام.

أكلت معه وكانت كلما قررت ترك ما تبقى من لفافتها إلى الغد، يضحك واضعًا يده على فمه "لئلا يصحو إخوته الصغار"، ويعود ليقربها من فمها معلقًا: "أعرف أنك تريدين أن تقسميها بينهم، والله لن يأكلها غيرك".

تناول محمد النجار العشاء الأخير مع أمه ليلة استشهاده، وطلب منها أن تقرأ له "آية الكرسي"

أنهيا طعامهما، فأسند إلى كتفها رأسه وتنهّد، قال لها: اقرأي "الكرسي"، قبل أن تكمل رُقيتها ارتخى كفها على رأسه وسكتت همهماتها ونامت، سحب رأسه بهدوء، ثم مشى نحو الباب لتوقفه بصوتٍ ناعس: "يما، إذا لسة معنّد بدك تروح عالمسيرة بكرة، راح تلاقيني وراك"، ضحك محمد  ورد: "اتوكلي على الله يما".

خرج من الغرفة كما دخل "على أطراف أصابعه". مشى في ردهة البيت متجهًا نحو الباب، حتى إذا همّ بالخروج انتبه إلى ضوءٍ خافتٍ في زاوية: كانت أخته التي حدثت بينه وبينها مشاحنة منذ أكثر من شهر  تصلي قيام الليل. انتظر قليلاً، ارتبكت صلاتها وهي تسأل نفسها: "لماذا لم يغلق محمد الباب بعد؟"، سلّمت ونظرت خلفها فإذا به يبتسم لها، قال فقط: "ادعيلنا يا حجة" فضحكت، وضحك، قبّل رأسها ثم خرج بعد أن ساعدته في ربط سماعة لا سلكية بجهاز جواله، قال إنه سيشغل عليها أناشيد مع أصدقائه غدًا خلال مشاركتهم في المسيرة غدًا"، ثم ذهب.

"تفاقيد الله"

بعد أن خرج من بيت أخته آلاء (وكانت الساعة الثالثة)، عاد إلى بيته الذي يبعد عنه مسافة أمتارٍ فقط، ولم ينم. انتظر حتى انتحر الليل تحت أقدام السائرين فجرًا نحو مخيم العودة شرق جباليا شمالاً، فهمّ بالخرج لولا أن صوتًا ناداه: "محمد، أنا جاية معك".

حاول الشاب أن يقنع أمه بالبقاء، قالت له: "إما أنا وأنت، أو لا أحد"، فلم يجد حلاً أمامه وهو الذي كان قد واعد أصحابًا له بضرورة الحضور هناك باكرًا إلا أن يأخذها معه. كان يحمل مقلاعًا، سألته أمه: "أليست سلمية؟ لماذا تحمل هذا الشيء إذًا؟"، أجابها: "لن أستخدمه إلا لو بدأ الجنود، وكل الشباب مثلي لا تقلقي".

شارك محمد النجار في مسيرات العودة برفقة أمه، قال لها: هذا المقلاع لن أستخدمه إلا لو بدأ الجنود

هناك تركها عند سيارات الإسعاف مع مجموعةٍ من النساء بعيدًا عن مرمى الرصاص، قال: "يما ديري بالك ع حالك" ومضى مهرولاً إلى ناحية السياج، حيث أصحابه هناك ينتظرون، نادته: "محمد يا حبيبي، إذا بتحبني إرجع"، أكمل محمد طريقه ولم يعُد.

اقرأ/ي أيضًا: مسيرات العودة: مشاهد لا تُنسى.. صور وفيديو

انهمرت الأخبار بعد عدة دقائق على مسامع الأم، هذه تقول: "شاب أصيب"، أخرى جاءت تلهث: "هناك شاب حاول إسعافه أصيب أيضًا"، بعد لحظات قالوا: "هناك شهيد". عيون أم إبراهيم لم تترك شابًا ناحية السياج إلا ودققت فيه النظر بحثًا عن محمد، ثم جاء ابن شقيقها يقول: "محمد تصاوب يا عمتي".

تصف الأم لحظتها بالقول: "رجف قلبي، حاولت أن أصرخ فاختفى صوتي. هذا مستحيل، محمد كان معي قبل قليل، ركبت سيارة نحو المستشفى الأندونيسي، كانت بطيئة جدًا، طلبت أن ينزلوني منها، وصرت أقول لهم: أنا أسرع منها والله، أريد أن ألحق بمحمد، سيخف ألمه بمجرد أن يسمع صوتي، أنا أسرع منها دعوني أذهب جريًا إلى هناك". ما انفكت تحاول النزول من السيارة حتى أخبروها أخيرًا: "محمد استشهد".

أجابتهم وكان قلبها يكذّبهم جميعًا: "أنتم لا تعرفون شيئًا، محمد سيكون عريسًا هذا العام، ستتحسن أحواله ويزيل الله غمته، وسيُتم حفظ المصحف، لقد وعدني بذلك".

استشهد محمد عندما قرّر أن مزيدًا من الوقت في الحياة يعني أن هناك فرجًا ينتظر، أما كيف شكله؟ فهذا ما تُقرره أقدار الله. استُشهد عندما حاول أن ينقذ شابًا اقترب من السياج لإشعال إطار فأصيب، لتباغته بعد لحظات رصاصة دخلت من جنبه لتخرج من أعلى ظهره.

بعد أن شيّعوه، اتصلت أم الشهيد بوالد الطفل، وأخبرته بصوتٍ تكاد تضيع من بينه الحروف: "حقك عند العدل الذي لا يضيع عنده حق"، وأغلقت السماعة، لقد رأت ابنها أخيرًا على أكتاف الرجال محمولاً "عريسًا يُزفُّ إلى الجنة"، واستجاب الله دعاء ابنتها آلاء في الليلة الأخيرة، أن "اللهم أزح غُمة".


اقرأ/ي أيضًا:

محمد أبو خليفة.. استشهد سره معه

أحمد جرار.. أسطورة ببضع رصاصات في 20 يوما

الباسل شهيدًا.. وصيته وصور للتاريخ