"إن خيالك هو حريتك في هذه الزنزانة المظلمة، أما جسدك فهو مقيّد اليدين والقدمين ومحروم من صنع الحياة اليومية، بل من أصغر وأتفه الأشياء التي تكتشف قيمتها هنا، وتكتشف مرارة الحرمان من أن تكون حرًا بكامل كيانك الإنساني" مروان البرغوثي (ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي 127).
التعبير بالكلام هنا لن يكون قادرًا على وصف شعور أسير عاش تجربة العزل في السجون الإسرائيلية سواءً كعقوبة بادعاء مخالفة اللوائح والأنظمة المعمول بها في السجون، أو العزل بقرار من المخابرات والزمن في هذه الحالة مفتوح. ولا يصف معنى شعور حرية العقل وثبات الجسد في المكان أو شعور فوضى الوقت، وهو أضعف من أن تعرف أن رسومًا كرتونيًا مثل "سالي" أصبح ملجأَ أسير سابق أمضى ستَّ سنوات في العزل وخرج منه بعاطفة كبيرة ووحدة.
العزل يعطي القدرة على خلق حوار مع الأشياء مثل الكتابات على الجدران وسؤالها من قام بذلك وكيف وأين هو الآن؟ كل هذا الحوار بسبب الحاجة لملء فراغ المكان.
العزل يعطي القدرة على خلق حوار مع الأشياء مثل الكتابات على الجدران وسؤالها من قام بذلك وكيف وأين هو الآن؟ كل هذا الحوار بسبب الحاجة لملء فراغ المكان. لا تقدر الكلمات على نقل مشاعر طفل كبر في غرفة مظلمة صغيرة بعيدًا عن عائلته وأصدقائه، وإن حرر خياله ربما سيرسم صورة دافئة لطفل في الثالثة عشر من عمره، ومن بعد هذا العمر ولغاية العشرين تقريبًا لن يستطيع أن يرسم سوى صور باردة لحياة السجون والتحقيق وغرف العزل.
يوضح الأسير السابق عبد القادر بدوي -أمضى 7 سنوات في الأسر- أن مفهوم العزل بالنسبة للأسرى هو القرار الذي تتخذه الجهات الأمنية سواءً داخل السجون أو خارجها لعزل مجموعة منهم أو واحد لأسباب سياسية تحت مبررات أمنية، إذ يتم عزل الأسير الذي يمتلك القدرة على التأثير أو الذي يتهم بالتحريض أو التمرد ضد إدارة السجون، أو الذي يتهم بوجود نوايا لديه لتنفيذ عمليات بالخارج أو نفذ عمليات مثل خطف الجنود أو أخرى مسلحة. أما العزل كعقوبة تسمى "معاقب زنازين" وسببها ادعاء إدارة السجون بمخالفة الأسير اللوائح والأنظمة المعمول بها، وهنا يتم إجراء محاكمة شكلية له وعزله كحد أقصى 21 يومًا.
ويضيف أن العزل -ولا يقصد هنا العقوبة- طابعه أمني، لكن تاريخيًا لم تكن الجهة الوحيدة التي تأخذ القرار بالعزل هي الاستخبارات (على مستوى السجن أو على مستوى السجون ككل أو المخابرات –جهاز الشاباك-) فقد تأخذه إدارة السجن، لإحباط أي عملية نضالية داخل السجون مثل وجود توجه عند الأسرى لإضراب عن الطعام، فتعزل الإدارة الأسرى المؤثرين بهذا الأمر لإحباط هذه الخطوة.
وفي مطلع الانتفاضة الثانية استخدم العزل لفصل الحركة الأسيرة عن قياداتها ومؤثريها بعد اعتقالهم مباشرة، مثل مروان وعبد الله البرغوثي، وإبراهيم حامد، وأحمد سعدات، وعاهد أبو غلمة، وأحمد البرغوثي (الفرنسي)، وناصر عويس، وعبد الناصر عيسى، وحسن سلامة، وعباس السيد، ومهند ومنصور شريم، وناصر أبو حميد، وفقًا للأسير السابق عبد القادر بدوي.
حتى سنة 2012 كان في العزل ولسنوات تصل إلى عشر أو أكثر قرابة 20 أسيرًا من قيادات الحركة الأسيرة
وأوضحت مسؤولة الإعلام في نادي الأسير الفلسطيني أماني سراحنة أنه في مراحل تاريخية معينة كانت غالبية قيادات الحركة الأسيرة في العزل الانفرادي. وحتى سنة 2012 كان في العزل ولسنوات تصل إلى عشر أو أكثر قرابة 20 أسيرًا من قيادات الحركة الأسيرة، وقد خاض الأسرى في 2012 إضرابًا لمدة 28 يومًا من أبرز مطالبه إنهاء العزل الانفرادي وتم بالفعل إنهاء عزل حسن سلامة، وإبراهيم حامد، ومحمود عيسى، وأحمد المغربي وغيرهم، وقد اعتبروا أنهم بخروجهم من العزل بعد سنوات طويلة والعودة إلى الأقسام قد نالوا جزءًا من حريتهم.
وتضيف سراحنة، أن هناك ازديادًا في أعداد الأسرى المعزولين من بعد العام 2012، خاصة بعد عملية نفق الحرية في أيلول/سبتمبر 2021، إذ يوجد في العزل اليوم قرابة 35 أسيرًا من بينهم 11 أسيرًا معزولين على خلفية عملية النفق.
وأكدت، أن العزل يؤثر على الصحة النفسية للأسير مثل ما جرى مع المحرر منصور الشحاتيت، الذي أمضى 17 سنة في السجون، منها، سنواتٌ طويلةٌ في العزل الانفرادي، ما أثر على صحته النفسية وعلى ذاكرته. وكذلك الأسير الطفل أحمد مناصرة الذي مر على عزله نحو 11 شهرًا ورغم وضعه النفسي تم تجديد قرار عزله. كما يوجد أسير مضى على عزله 15 سنة ورفض في الفترة الأخيرة الخروج من العزل بسبب وضعه النفسي الحالي.
يُعرَف الوقت في العزل حسب وجبات الطعام أو من خلال ضوء الشمس المتسلل للغرفة، ومع ذلك قد يتوه الأسير المعزول ويفقد معرفته، أو قد لا يعير للأمر أي اهتمام، فما هي قيمة معرفة اليوم إن كانت في زمن مفتوح؟
يُعرَف الوقت في العزل حسب وجبات الطعام أو من خلال ضوء الشمس المتسلل للغرفة، ومع ذلك قد يتوه الأسير المعزول ويفقد معرفته، أو قد لا يعير للأمر أي اهتمام، فما هي قيمة معرفة اليوم إن كانت في زمن مفتوح؟
قضى الأسير السابق محمد جابر محيي الدين عَبَدة، 21 سنة في معتقلات الاحتلال. فبعد سنة ونصف من اعتقاله، تحديدًا في 2003، عُزل لمدة 6 سنوات متتالية بدعوى قيامه وهو داخل السجن بتنظيم مجموعات في الخارج وتوصيل السلاح والمال لهم لخطف جنود إسرائيليين.
يقول محمد عَبَدة: "بقيت سنة لم أرَ فيها الشمس، لم أكن أعرف إذا الوقت ليل أم نهار ولا أعرف ما هو اليوم. الأمر ليس مزعجًا، لكن تشعر أن الشخص انتهى وليس له علاقة بالدنيا. هذا هو الشعور. وذلك لا يعني أنني انهزمت أمام السجانين، لكن يشعر الشخص أنه لماذا يجب أن يفكر باليوم وهو موجود هنا لسنوات".
مُنع محمد من الزيارات ولم يرَ والدته إلا بعد 6 سنوات، وجلس معها لمدة 45 دقيقة، ثم توفيت إثر جلطة خلال رجوعها للمنزل. كما رفض أن يخرج للفورة (ساحة السجن) لمدة 5 سنوات بسبب إجراءات الاحتلال والقيام بتقييد قدمي الأسير ويديه وقد أقلم نفسه على نمط معين في العزل.
يُضيف: "في رمضان كنت أستيقط الساعة العاشرة والحادية عشرة مساءً وأكون صائمًا، وأنام بعد الفجر أو الساعة العاشرة صباحًا وأستيقظ الساعة الحادية عشرة مساءً ويكون الأسرى مفطرين، أمضيت 12 عيدًا بمفردي وفي أعياد رمضان تحديدًا كنت أظل صائمًا حتى العاشرة صباحًا حتى أتأكد أن اليوم عيد.
وتابع: "كنت أحضر في غرفة العزل رسوم سالي على التلفاز وأبكي عليها لأنني أتذكر حالي من خلالها. صرت عاطفيًا، وعندما خرجت من العزل ورجعت إلى الأقسام كنت أبكي كلما انتقل أسير من سجن إلى آخر بالرغم من أن علاقتي فيه غير قوية. وإذا توفي والده أحد الأسرى أو والدته أبكي أيضًا. هذا كله من آثار العزل الممتدة إلى غاية اليوم".
عندما خرجت من العزل ورجعت إلى الأقسام كنت أبكي كلما انتقل أسير من سجن إلى آخر بالرغم من أن علاقتي فيه غير قوية. وإذا توفي والده أحد الأسرى أو والدته أبكي أيضًا. هذا كله من آثار العزل الممتدة إلى غاية اليوم
وأوضح محمد عبدة، أنه خرج من العزل نحيل الوزن، وفي البداية لم يكن قادرًا على التعامل مع الأسرى، وإذا خرج إلى الفورة يجلس وحده، رغم أنه في الأصل "شخصٌ اجتماعيٌ جدًا"، مبينًا أن الأسرى بعد فترة صاروا يجلسون معه ويتحدثون إليه حتى صادر يتعامل معهم تدريجيًا.
الأسير السابق عبد القادر بدوي، عُزل أكثر من مرة كعقوبة. يقول: "مشكلة العزل هي الساعة، فإذا لم يكن معك ساعة لن تعرف الوقت، تحديدًا داخل الزنازين التي الطاقة فيها لا تظهر الشمس وبالتالي لن تستطيع تقدير الوقت، وإن كان معك ساعة فتحس أن الوقت لا يتحرك. في عوفر لم يكن معي ساعة فكنت أقدر الوقت من الأذان أو الشمس أو أسأل السجانين الذين غالبًا لا يجيبون على أسئلتنا".
وأضاف: "الزمن ومعرفة الوقت من أكثر الأمور التي شغلت تفكيري فيما يتعلق بتجربة العزل الانفرادي، أن تقضي وقتًا مقاييس معرفته تقديرية، الأمر كله ربما يكون تقديريًا مثل أن تجلس لساعات عند الشباك أو الباب لتملأ الوقت لكسر صمته في المكان الثابت".
عندما عزل عبد القادر في سجن "إيشل" مر في هذه التجربة، فكرة أن تقف بجانب الشباك أو الباب وتتحدث لساعات طويلة مرهقة بالنسبة للبعض وغير مجدية، لكنها كذلك لأنها تملأ وقتك. "في إيشل كان هناك أسير منع من دخول السجن وتم نقله إلى الزنازين، فكنت أتحدث معه في اليوم حوالي أربع ساعات أو أكثر، وعندما خرج شعرت أنني فقدت شخصًا لأن جزءًا مهمًا من يومي لم يعد موجودًا".
حتى أن من الأمور التي تساعد الأسير الذي مر أو يمر بتجربة العزل كعقوبة هو شعوره أنها مؤقتة وسيرجع بعد فترة معلومة وإن تمددت، وهذا ما أحس به عبد القادر وقاله خلال حديثنا معه: "الذي يصبرك في العزل الانفرادي إن كان بسبب عقوبة هو أنه مؤقت، الأسير يعلم أنه هو هنا لفترة وسيخرج، والسؤال الذي لا أملك إجابة عليه هو كيف يتعامل الأسرى المعزولين بقرار مع مسألة الوقت؟".
تجربة الأسير السابق عصمت منصور تخبرك كيف تقطع الوقت الممتد والبطيء في العزل، ليس بالحوار مع أسرى آخرين رغم صعوبة الأمر، بل بالحوار مع الأشياء، فتظن من الوهلة الأولى لدخولك غرفة العزل أن المكان فارغٌ حتى تملأه بحوار مع الكتابات على الجدران وتسألها من قام بذلك وتضيف أنت كأسير لاحق في المكان بصمتك على الحائط.
في العزل كنت أمشي ثلاث أو أربع خطوات بالتمام (هذه هي مساحة الزنزانة) حتى أتعب وأشعر أنني كسرت الروتين. وكنت أقف عند الباب وأحاول لمدة ساعة أن أسمع ماذا يحدث حولي من أصوات خطوات أو فتح للباب أو إغلاقه وحديث بين سجان وآخر
اعتُقِل عصمت منصور 20 سنة قضى منها فترات متقطعة في العزل الانفرادي كعقوبة على إجراءات داخل السجن، مثل حدوث قمع فيه فيتم عزله، أو تصديه لأمر التفتيش أو تصادمه مع الإدارة بسبب مواقف حملها كممثل للأسرى. وعن هذه التجربة يقول: "عندما تدخل إلى الزنزانة تفكر أنها خالية وفارغة وتعيش هذا الشعور بالخواء، لكن بعد أن تكتشف الزنزانة يصبح للبرش (الفرشة) ألف تفصيل وكذلك الجدار، بعد أن كان مجردًا وتبدأ العلاقة معه بالسؤال عن الكتابة عليه ومن قام بذلك وأين هو الآن وكيف كتب وتقوم بالبحث عن أدوات لتكتب أنت أيضًا، هذا يخلق حوارًا داخليًا وتقضي ساعات وأنت تتأمل هذه الأشياء، وهذه الصلة مع الأشياء تملؤ فراغ المكان".
ويكمل: "في العزل كنت أمشي ثلاث أو أربع خطوات بالتمام (هذه هي مساحة الزنزانة) حتى أتعب وأشعر أنني كسرت الروتين. وكنت أقف عند الباب وأحاول لمدة ساعة أن أسمع ماذا يحدث حولي من أصوات خطوات أو فتح للباب أو إغلاقه وحديث بين سجان وآخر وذلك حتى أخلق نوعًا من الأجواء خارج الزنزانة وأضيع وقتي، لأن شعور الصمت والانتظار وعدم وجود شيء يتحرك يقتلك".
وأشار عصمت منصور أنه في ظل انعدام الوسيلة البصرية للتواصل مع الأشياء في العزل، فإن الأسير يتعرف على العالم ويقيم صلة معه من خلال سمعه، فيصغي جيدًا لكل تفصيل، ويميز بين خطوات السجان والسجين، "ثم إذا خرجت من الزنزانة قد تتضايق من الأمور التي كنت تبحث عنها مثل الصوت والضوء والحركة، وتصبح أكثر ميلًا لأجواء العزلة والرتابة" وفقًا له.