30-مارس-2024
نتنياهو

يفضح النموذج الذي يطرحه نتنياهو تجاه غزة اتجاهات وأهداف السياسة الراهنة في الضفة (Getty)

في اجتماع كابينيت الحرب الإسرائيلي الخميس الماضي، 28 آذار/مارس، رفع العضو المراقب بالمجلس رئيس الأركان السابق الجنرال غادي آيزنغوت وثيقة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لليوم التالي وخاطبه قائلًا: كيف نمضي قدمًا بهذا الشيء؟ لا يوجد أي جزء من الخريطة يتقدم إلى الأمام. أنت لا تتقدم إلى الأمام في أي من مراحل المستند الذي حددته".

الخطة السياسية لنتنياهو بالمعنى العام جاءت بعنوان اليوم التالي لحماس لا الحرب وافتقدت لأبعاد وقضايا سياسية واضحة

كان نتنياهو قد طرح خطته لليوم التالي في قطاع غزة بعد الحرب منذ أربعة أسابيع تقريبًا. الخطة السياسية بالمعنى العام جاءت بعنوان اليوم التالي لحماس لا الحرب وافتقدت لأبعاد وقضايا سياسية واضحة فيما يتعلق بغزة والقضية الفلسطينية بشكل عام، مع تركيز على الملفات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في القطاع بعد الحرب.

بداية ومن حيث الشكل، بدت خطة نتنياهو تجسيدًا للمقولة الشهيرة لوزير الخارجية الأمريكي الراحل هنري كيسنجر "إسرائيل لا تملك سياسة خارجية وإنما داخلية فقط"، حيث ردّ نتنياهو على مطالب أطراف عربية ودولية عديدة من أجل طرح رؤيته لليوم التالي للحرب لا لحماس، ولكنه عندما فعل ذلك بدت خطته موجهة  أساسًا إلى الشارع الإسرائيلي لاستعادة شعبيته في صفوف اليمين المتطرف تحديدًا، كما لحلفائه المتطرفين بتسلئيل سموترييتش وإيتمار بن غفير اللذين باتا وزراء مركزيين ومؤثرين في الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ الدولة العبرية.

في الشكل أيضًا، كان نتنياهو قد تحدث لعقدين تقريبًا، أي منذ منتصف التسعينات حتى منتصف العقد الثاني من القرن الجاري، عن موافقته عما أسماه حكمًا ذاتيًا زائدًا "بلس" ودولة ناقص "ماينس" للفلسطينيين وفق نموذج ميكرونيزيا وناورو، أي دولة مع علم ونشيد ومشاركة بالأولمبياد، ولكنها منزوعة السلاح ودون سيادة فعلية مع سيطرة إسرائيلية كاملة على الحدود البرية والبحرية والمجال الجوي وحتى موجات البث الكهرومغناطيسي في سمائها.

بينما جاءت خطته الأخيرة أقرب إلى حكم ذاتي "ماينس" وفكرة روابط القرى سيئة الصيت من ثمانينات القرن الماضي، متضمنة إدارة مدنية محلية للسكان بغزة دون أفق سياسي وحق تقرير المصير، مع خضوعها للهيمنة السياسية والأمنية الكاملة للدولة العبرية.

في سياق الخطة، تحدث نتنياهو عن سيطرة عملياتية تامة على قطاع غزة وإعادة انتشار جيش الاحتلال إلى المنطقة العازلة بعمق كيلومتر بطول القطاع، 60 كم مربع، التي تبتلع سدس مساحة القطاع الإجمالية البالغة 360 كم مربع تقريبًا.

يفضح النموذج الذي يطرحه نتنياهو تجاه غزة اتجاهات وأهداف السياسة الراهنة في الضفة الغربية

نتنياهو تحدث كذلك عن سيطرة أمنية على الحدود الجنوبية مع مصر تحت وفوق الأرض بحجة منع تهريب الأسلحة إلى غزة التي يريدها منزوعة السلاح تمامًا. إذن تتضمن خطة نتنياهو تشكيل لجنة محلية مدنية تتولى إدارة مناحي الحياة المختلفة بغزة وحفظ الأمن الذاتي فيما يبدو أقرب إلى شرطة بلدية. كما كان لافتًا الإفصاح عن النية الإسرائيلية التي باتت رغبة واضحة في حل الأونروا وإنهاء وجودها وحضورها بغزة والقضية الفلسطينية بشكل عام، والاستعاضة عنها بجهات ومنظمات دولية مع الاستعانة بأنظمة عربية ذات خبرة لمحاربة ما أسماه التطرف في المناهج الدراسية الفلسطينية، كما المساعدة والإشراف على عمل الإدارة الذاتية بغزة .

كان لافتًا كذلك عنوان خطة نتنياهو "اليوم التالي لحماس لا الحرب"، وأن لا إعادة إعمار إلا بعد نزع السلاح ومحاربة التطرف لإطالة الصراع إلى أبعد زمن ممكن عبر اتباع نموذج جنين –طولكرم-نابلس في الشجاعية وبيت لاهيا وخان يونس مع التخلص من السلطة ببعدها وجوهرها وأفقها السياسي، والاستعاضة عنها بإدارة محلية مدنية من العشائر والوجهاء وربما بعض منظمات المجتمع المدني بغزة.

يعلم نتنياهو بالطبع أن لا إمكانية للقضاء على حماس أقله بالمدى المنظور، والأمر يحتاج شهورًا وربما سنوات للقضاء على جيوب المقاومة بغزة، حيث إن أفعال إسرائيل ستخلق بالتأكيد مقاومين جدد، كما أن الحركة لا تزال تملك آلاف المقاتلين المستعدين للقتال والتضحية، 4 آلاف في الشمال ومثلهم على الأقل في رفح وخان يونس والوسط حتى لو بمجموعات صغيرة دون قيادة هيكلية ومركزية كما يدعي الاحتلال.

ثمة ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام وتتمثل بالتخلي الإسرائيلي الرسمي ولو نظريًا عن خطط الاستيطان والتهجير القسري بغزة ضمن ذهنية  وسياسة إدارة الصراع والإلهاء وإبعاد ولفت الانتباه عما يجري في الضفة الغربية، كما قال عن حق رئيس الوزراء السابق أهود أولمرت، لفتح الطريق أمام تنفيذ خطط سموترتيتش وبين غفير في الضفة الغربية، الساعية لدفع السلطة نحو الانهيار أو تحويلها إلى إدارة مدنية ومحلية بحتة والسيطرة التامة على الحرم القدسي الشريف. بمعنى نقل نموذج الضفة العسكري الأمني إلى غزة، أي حكم ذاتي بلدي ضيّق ومحدود، ووضع الفلسطينيين هناك أمام ثلاثة خيارات؛ الاستسلام  أو الهجرة أو القتل على طريق التصفية التامة للقضية الفلسطينية.

وكذلك يفضح النموذج الذي يطرحه نتنياهو تجاه غزة اتجاهات وأهداف السياسة الراهنة في الضفة الغربية، لجهة تهميش وتجاهل السلطة في رام الله ودفعها قسرًا نحو مربع الحكم الذاتي المحدود – سلطة بلا سلطة وأفق سياسي - ونقل نموذج جنين ونابلس إلى الشجاعية وخان يونس، كما يقول شريكه في الائتلاف الحكومي ومجلس الحرب الجنرال بيني غانتس، والذي يملك أيضًا خطة خاصة لليوم التالي، لا تختلف جوهريًا عما يطرحه نتن ياهو مع صياغات لغوية مختلفة. مع أولوية لاستعادة الأسرى لدى المقاومة، وانفتاح أكثر على التعاون الإقليمي والدولي تجاه تحديد مستقبل غزة النهائي والقضية الفلسطينية بشكل عام.

ومع رفض أي حضور للسلطة بغزة يسعى نتننياهو عمليًا للعودة إلى اليوم السابق لـ7 تشرين أول/أكتوبر دون المراجعة أو استخلاص العبر، ما يعنى أن الحصار سيستمر ولو بتحديث أو تحايل ما مع تكريس وحتى تأبيد الانقسام بين غزة والضفة الغربية بغياب الأفق السياسي الجدي نحو إقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة والاستقلال عبر الانسحاب، أو للدقة إعادة الانتشار في غزة ومواصلة السيطرة على حدودها وأجوائها  تمامًا كما جرى مع خطة الانفصال الأحادي عام 2005، أي أكل الكعكة وبيعها للعالم في نفس الوقت.

ورغم أن الخطة الجديدة تبدو مرحلية لكنها قد تتحول إلى دائمة على الطريقة الإسرائيلية، كما جرى مع اتفاق أوسلو الذي يتباهى نتنياهو بقتله وإفراغه من مضمونه على علاّته وتحويل المرحلي والمؤقت فيه إلى دائم.

 

لا يقل أهمية عما سبق كون خطة نتنياهو تحمل في طياتها وتستبطن بين السطور خطة تتمثل بإشاعة الفوضى الخلاقة على الطريقة الإسرائيلية، نقلاً عن أصدقائه وحلفائه القدامى من المحافظين الجدد زمن إدارة  جورج بوش الابن، أو مراوحة في المكان حسب تعبير آيزنغوت وحتى دفع غزة نحو النموذج الصومالي كما يقال في إسرائيل، حيث يبدو نتنياهو المتعجرف والمتغطرس والمهوس بذاته غير مبالٍ تجاه تلك السيناريوهات ولا يخشى حدوثها في ظل وهم قدرته على إدارتها وتحجيمها، بحيث لا ترتد سلبًا على  الدولة العبرية وبالحد الأدنى بتكلفة يمكن تحملها.

بالتأكيد لن يقبل أحد بالخطة مع الرفض الفلسطيني القاطع والحازم لها، وصعوبة تصور الانخراط العربي، وتحمل كلفتها الباهظة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. كما لا دعم أمريكيًا وأوروبيًا لنتنياهو المتماهي تمامًا مع اليمين المتطرف والساعي بدأب لتأبيد الصراع لا حله، ربما انتظارًا لعودة صديقه دونالد ترامب للبيت الأبيض وإعادة صفقة القرن سيئة الصيت إلى جدول الأعمال.

بدت خطة نتنياهو تجسيدًا للمقولة الشهيرة لوزير الخارجية الأمريكي الراحل هنري كيسنجر "إسرائيل لا تملك سياسة خارجية وإنما داخلية فقط" 

في الأخير باختصار وتركيز ثمة معارضة فلسطينية حازمة لخطة نتنياهو كما حصل مع صفقة القرن، لحليفه وصديقه دونالد ترامب –عبر صهره  ومستشاره جاريد كوشنير عن أفكار مشابهة منذ أيام - غير أن إفشالها وإسقاطها يستلزم بالضرورة بلورة خطة ورؤية ومقاربة فلسطينية لليوم التالي للحرب –لا لحماس بل معها – تتضمن تشكيل حكومة كفاءات من شخصيات وطنية كفؤة ونزيهة وإعادة بناء ديموقراطية شفافة ونزيهة لمنظمة التحرير كإطار قيادي مرجعي أعلى للشعب الفلسطيني.

وقبل ذلك وبعده ومبدئيًا ومنهجيًا لا يعقل أن يملك نتنياهو ووزير دفاعه غالانت وحتى عضوا مجلس الحرب الجنرالان بيني غانتس وغادي آيزنغوت خططًا وتصورات ورؤى تجاه اليوم التالي، بينما لا يفعل أصحاب القضية الشيء نفسه وحتمًا باتجاه مناقض ومعاكس لما يريده ويسعى إليه قادة الاحتلال.