01-يوليو-2019

لا ينفكّ الخطاب الديني الرسمي يتحدث عن إنهاء الاحتلال كحتميّة دينية بشّرت بها السماء، بمعزل عن تفكيك هذا المعنى إلى عناصره الأساسية، التي تعني –ضمن ما تعني- وجود آليات وتحركات تؤدي إلى النتيجة التي يتعرّق خطباء المساجد وهم يتحدثون عنها.

الحديث هُنا غيبيّ فقط، يستند إلى خطاب ديني يؤكد -بلا تعب- أن هذه البلاد لا يعمّر فيها ظالم، ولا تطول فيها عنق محتل!

   مرة ندعو السماء أن تنتصر لنا، وأخرى نغنّي لتقضي على المحتل. وكل هذا دون أدنى جهد حقيقي مؤسساتي وجماعي   

غيبيّات لا يملّ ترديدها خطباء منابر وشيوخ مجالس ودعاة منصات، يخرجونها من سياقها المنطقي أو العقلاني، ويلقونها على أسماع أقوام يستمعون بخشوع، فيحوقلون، ويفرحون، ويذهبون إلى بيوتهم وهم ينتظرون زوال إسرائيل، ويطمئنون نساءهم، لأن الإمام قال!

ولا يبتعد هذا الخطاب عن رديفه الوطني، وإن بدا الخطابان متنافرين، إلا أنهما متوازيان، ويقودان إلى النتيجة نفسها؛ الأول استنادًا إلى غيبيّات دينية، والثاني إلى شعارات رفعت خلف متحدثين يفتقدون إلى البلاغة على منصات تقام في المناسبات الوطنية، احتفالاً بـ"شرف" ذكرى أليمة، وعلى وقع أغانٍ وأناشيد ثورية، لم يعد السياق يحتملها، لا رسميًّا ولا شعبيًّا. هي فقط شعارات ترفع الأدرينالين قليلًا في خلايا من يرددونها حتى تبحّ أصواتهم.

شعارات تأثيرها ينتهي مع غياب صداها، فقط.

والخطاب الوطني يستند في كثير من الأحيان إلى حالة ضعف مفترضة، أو متخيّلة بوصف أدق، في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمحتل، فلا أسهل من أن تسمع من يقول إن دولة الاحتلال منهارة من الداخل، وستنهار ذاتيًّا، بسبب الفساد (يا للسخرية!)، أو بسبب صراعات حزبية، تختلف على طرق قيادة الدولة، لكنها لا تختلف على الأهداف العليا لها.

ها هي انتخابات الكنيست مثار تندّر على قرب انهيار هذا الكيان.

   ثمة اتكالية في فعل التحرر: مرة على قدرة السماء، وأخرى على ضعف الآخر!  

هؤلاء يوهموننا أننا سنستيقظ يومًا ما، ونجد المحتلين قد ماتوا مثلًا أو هربوا بليل في بواخر كانت تنتظرهم في موانئ مهجورة كي لا يكتشف خيبتهم أحد.

المهم أننا –في الحالين- نقف في مكاننا، مرة ندعو السماء أن تنتصر لنا، وأخرى نغنّي لتقضي على المحتل. وكل هذا دون أدنى جهد حقيقي مؤسساتي وجماعي، باستثناء حالات فردية، لم تؤسس لحالة نهوض جماعية، ولا تحتملها البنى القائمة.

فكرة "النصر" في كل المعاني قائمة على المواجهة والتحدي، لا نصر في معركة دون نزال. والنزال هنا حقيقي ومجازي، ولا يكفي أحدهما دون الآخر، بل معًا: دمٌ ولسان.

والمواجهة لا تكتفي بالمجاز، ولا تعني فقط الفرح والحب والموسيقى والرقص والمهرجانات، إنها هذه الأشياء كلها، إضافة إلى الاستعداد الحقيقي، عبر تمتين البيت الداخلي وتخليصه من الشوائب، كي يكون قادرًا على المواجهة. إنها "وأعِدّوا" بكل معانيها المحتملة.

  ادّعاء العاديّة في واقع غير عادي سفاهة وحمق، وحيلة غبية لنقنع أنفسنا قبل الآخرين أننا نواجه  

الخطابان الديني والوطني الرسميان في جوهرهما خطابا اتكالية. وخلف الستار، يعمل مطلقوهما على تعزيز حضورهما والحفاظ على مقدراتهم الفردية.

وهذان الخطابان مريحان أيضًا لكثير من أصحاب رؤوس الأموال، الذين يمتطون الدين والوطن بشعارات هدفها النهائي توسيع "الرزق أو الربح". يشبه الأمر حكاية التخفيضات التي يزعم أصحابها أنها تأتي مراعاة لحال المواطنين البائس، وهي في الحقيقة ضربات سريعة في جسد السوق النائم، كي يستيقظ ويستعيد عافيته. والسوق لا تحب السكون. ورأس المال يحب الحركة، ولو بربح قليل. لا أحد يقدم تسهيلات كرمى لعيون الموظف. إنه مكره على ذلك، لانعدام الخيارات، كما أنه ضامن تمامًا لحقّه، فلن يخسر قطميرًا ولا فتيلاً ولا نقيرًا، من تمر الموظف.


اقرأ/ي أيضًا: 

أصل المافيا حركة ثورية

توماس فريدمان.. في حب الصهيونية حتى الموت

مات المعلم الذي صار صديقي