28-فبراير-2018

شابان فلسطينيان شرقيّ القدس، التُقطت الصورة في شباط/ فبراير 1988 | Photo by: Peter Turnley/ Getty Images

"لا تسلّم نفسك، ولتنتقل إلى التخفي، للحياة السريّة بما تتطلبه تلك الحياة من إجراءات، تحوُّطات، متطلبات، وقواعد ينبغي مراعاتها حرفيًا، وأولها: لا تستقبل أحدًا، ولا تزر أحدًا"، بهذه الكلمات المقتضبة أُبلغ وسام الرفيدي أحد قادة الجبهة الشعبية، بأنّ عليه أن يختفي كي لا يسمح للاحتلال باعتقاله وحجز طاقاته وقدراته.

9 سنوات قضاها وسام الرفيدي، متخفيًا عن أعين الاحتلال. انتهت تلك السنوات، لكنّ عاداتها لا تزال تلازمه  

وسام الرفيدي الذي بات اليوم على مشارف الستينات من العمر، خاض تجربة الاختفاء عن أعين الاحتلال لتسع سنوات بدأها في 1982 إلى أن تمّ اعتقاله في العام 1991. ليكون بذلك أحد الذين مارسوا هذا النمط من النضال مع الاحتلال الذي سعى لتدمير البنى التنظيمية للأحزاب والمنظمات الفلسطينية.

الرفيدي، وبعد اعتقاله، الذي أمضى مدّة منه في معتقل النقب في قسم "5" حيث بدأ في كتابة تجربته "رواية الأقانيم الثلاثة" في كراس أخرج فيما بعد من خلال "كبسولات" بلغ عددها (54 كبسولة) نظَّم تهريبها رفاقه في سجن نفحة الصحراوي عبر 6 سجون لتصل إليه ليقوم بنشرها فيما بعد.

ويرجع الرفيدي أسباب اللجوء للاختفاء كأحد الأنماط النضالية في مواجهة الاحتلال إلى مبررات تنظيمية داخلية، وضرورات وطنية عامة: "اقتضت ضرورة التخفي بقرار حزبي لعدم حجز طاقة مناضل داخل السجن، فلا يوجد فائدة من ذهاب المناضلين للأسر، وبالتالي من أجل الحفاظ على تراكم التجربة وتراكم النضال، في بعض المفاصل الأساسية لجأت للاختفاء، هذا ضمن قرار وترتيبات حزبية، لأن الاختفاء صعب جدًا، فليس بمقدور أي شخص الاختفاء، والقيام بمهام محددة، والعيش ضمن نمط محدد، ولأن الأرض المحتلة عاشت ظروفًا مريرة في التقطعات التنظيمية، من خلال المجموعات التي تتشكل وتكشف وتنسجن".

الاختفاء صعب جدًا، وليس بمقدور أي شخص الاختفاء، والقيام بمهام محددة، والعيش ضمن نمط محدد  

ويقول الرفيدي إنّه و"بدون تراكم في العمل الحزبي، من الصعب بناء بنية حزبية.. التراكم في التنظيم يعني استمرار التجربة ونقلها إلى جيل آخر وبالتالي الحفاظ على البنية، وهو السبب الرئيس" للاختفاء.

ويضيف الرفيدي حول ضرورة الاختفاء الوطنية، بأن هذا النمط ساعد الأحزاب والتنظيمات في مرحلة الثمانينات، فالاختفاء وفَّر بنية قوية للتنظيمات لتمتلك زمام المبادرة في الانتفاضة، وهذا كله نتاج أكثر من عامل، أهمها حماية البنية نتيجة الصمود في التحقيق، ونتيجة الاختفاء، وبالتالي كان الاختفاء ضرورة وطنية".

 

خاض عدد قليل من الفلسطينيين تجربة الاختفاء، وكان أهمّها، وأكثرها طولًا تجربة "أحمد قطامش" باختفائه من العام 1976 والتي استمرت 17 سنة حتى اعتقاله في 1992، والتي زامنتها تجربة وسام الرفيدي، الذي اعتقل قطامش بعده بعام واحد، إضافة لتجارب اختفاء مناضلين مثل "محمود فيوم" و"زكريا النحاس"، "إلياس جرايسة" و"حسن أبو خضير".

  ظرف فلسطين من أقسى تجارب الاختفاء في العالم    

لكن، ومقارنة بمثيلاتها العالمية كان لتجربة الاختفاء فلسطينيًا ميّزات تفوّقت بها، يقول الرفيدي: "كانت تجربة الاختفاء لدينا هي الأصعب، وتختلف عن ظروف الاختفاء التي مارسها المختفون عبر العالم، هناك اختلاف الديموغرافيا، ففي فلسطين، قليلة العدد سكانيًا نسبة لغيرها من مواقع التجربة، الاختفاء أصعب بكثير، فمثلًا شخص مثلي كان يدرس في جامعة بيرزيت كانت له علاقات مع أغلب طلاب الجامعة من الضفة وغزة وأراضي الـ48، لا يستطيع ببساطة أن يخرج بشكل علني في نابلس مثلًا، هذا بالإضافة لمساحة فلسطين الجغرافية الصغيرة التي لا تتيح أمامي خيارات في التنقل، ولذلك فُرض عليّ اختفاء من نمط خاص، بأن أبقى في داخل البيت السري ولا أخرج منه، إلّا من خلال ترتيبات أمنيّة حسّاسة ودقيقة، وهذا يختلف عن السودان حيث عشرات الملايين من الأشخاص، "فمحمد نُقد" أمين عام الحزب الشيوعي الذي اختفى 10 سنوات، خرج من الخرطوم إلى جنوب السودان، وتيتو اختفى في يوغسلافيا التي كانت منطقة واسعة جدًا واختفى في الجبال، فكان ظرف فلسطين من أقسى تجارب الاختفاء في العالم، فعدد السكان قليل وأنا من أوساط طلابية، واشتراطاتها أقسى بسبب التطور التقني اليوم والرقابة وأجهزة التنصت، والمتابعة تطورت جدًا.

في الماضي لم يكن لدينا أجهزة محمول متنقلة ولكن اليوم أجهزة الملاحقة متطورة جدًا، وكان هناك أيضًا العملاء، وهذا يعني اشتراطات أقسى وأصعب من الخارج، يقول الرفيدي.

خلال تجربة الاختفاء والعمل السرّي، تواجه المختفي صعوبات جمَّة، فهناك مشاعر متناقضة، يقول الرفيدي، فقد تمر لحظات ضعف يخطر ببال الشخص فيها أن يفتح الباب ويخرج من مكانه، ولكن ما يشد في النهاية هو القناعة والصلابة العقائدية، أن هذه التجربة ضرورية.

ويشير الرفيدي إلى جانب آخر من الصعوبات التي واجهته، فخلال تسع سنوات من اختفائه، لم يكن أحد من عائلته يعرف بمكانه باستثناء أمّه التي حافظت على سرّه. ويقول إنّ إخوته وأخواته لم يعلموا عنه شيئًا، ولكنهم كانوا على قناعة بأنّه طالما لم يأت خبر استشهاده، فهو على قيد الحياة، ولكن أين، لا أحد يعرف.

الصعوبة الأساسية في الاختفاء، يقول الرفيدي: كانت بقطع كل العلاقات الاجتماعية. كنتُ قبل اعتقالي في فترة الخطوبة التي تم فسخها بسبب عدم استعداد الطرف الآخر لتحمّل وضعي الجديد، إلا أنّ الأم تبقى خارج كلّ الحسابات، وبالتالي كان الجانب الإنساني في لقاء الأم خلال تجربتي، يضيف الرفيدي: كان لقائي الوحيد والاتصال بالعلاقات الاجتماعية فقط مقتصرًا على لقاءاتها وفي فترات متباعدة، المسألة الجوهرية هنا هي الاستعداد لترك كل الحياة الاجتماعية والمتطلبات الخاصة كإنسان لصالح الثورة، وهذا يحتاج لمستوى عال من الصلابة والقناعة الأيدلوجية والعقائدية، والإيمان بعدالة قضيتنا، وأهميّة هذه التجربة.

تجربة الاختفاء تعيد صياغة الشخصية وتصقلها، تنضجها أكثر  

الاختفاء كتجربة "فريدة" بما تحمله من قسوة وصعوبة وتغيير في "برنامج الإنسان اليومي الاجتماعي بطبعه، ستنعكس بالضرورة على شخصية المختفي وبأكثر من جانب، يقول الرفيدي: "شخصيتي على المستوى العقائدي، الماركسي، سواء قناعاتي فيما يتعلق بالمرأة، بالثورة، بفلسطين، بدور الإنسان في الحياة، تشكّلت في السجن وفي الاختفاء؛ ففي السجن اعتقلت أكثر من مرة ولفترات طويلة، وأحيانًا قصيرة، وخضعت لتجارب تحقيق قاسية جدًا جعلتني أكثر صلابة، ولكن التكوين الأساسي في شخصيتي كان في الاختفاء، وهي كتجربة تعيد صياغة الشخصية وتصقلها، تنضجها أكثر، كما أن ثقتي بنفسي وبعدالة قضيتنا ازدادت، والقدرة على التحدي أيضًا.

في عام 1991، قادت مصادفة، جيش الاحتلال إلى "وكر الرفيدي" كما أسماه، حيث كانت عملية تمشيط وبحث عن ملقي الحجارة والقنابل الحارقة، وعند مداهمة الوكر، تفاجأت المخابرات الإسرائيلية بوجود الرفيدي، داخل خزانة خشبية يحرق أوراق العمل السري، ويدخن سيجارته الأخيرة قبل المواجهة في أقبية التحقيق التي صمد فيها، ليقضي في سجون الاحتلال تسع سنوات.

يقول الرفيدي: "شعرت بالموت ثلاث مرات وفي العرف الشعبي يقال (شاف الموت في عينيه)، ثبت لي أنه ليس تعبيرًا مجازيًا؛ المرة الأولى كانت ليلة الاعتقال وإخراجي من الخزانة، والثانية عند انفجار معدتي في التحقيق، فمن حجم الألم الذي انتابني شعرت أنّها لحظات موت، أمّا الثالثة ففي الاجتياح عندما اعتقلت لمدة سنة، حينها وضع الجندي السلاح في رأسي ورفع الأقسام وسأل الجندي الآخر هل يوجد ممرض، فأيقنت أنّه سيطلق النار علي.

المطاردة والاختفاء.. ما الفرق؟ وماذا عن إمكانيّة استنساخ التجربة؟  

وحول تجربة الاختفاء وإمكانيّة استنساخها في الوقت الحاضر يقول الرفيدي: "أعتقد أن هذا الجيل الجديد جيل أذكى منّا رغم أنه ليس أنضج، فعنده الحيوية وحوافزه عالية جدًا قياسًا بنا، على الأقل بحكم العمر والصحة، ولكن المشكلة أن القوى السياسية لا تقوم بدورها في التعبئة والتربية، وحتى لو كانت هناك استعدادية للخوض في تجربة التخفي، فهذا الأمر يحتاج إلى بنية تنظيمية قوية تحميها، وتسهل الحركة، وتضع قواعد وتراقب السلوك، ولكن عدم توفر بنية سيؤدي إلى كشفهم والإمساك بهم بسهولة".

وحول المشابهة بين الاختفاء والمطاردة والتي شكلت نمطًا نضاليًا خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، يقول الرفيدي "قصة المطاردين الذين يتم اعتقالهم لأنهم يتعاملون مع المطاردة كمطاردة وليس كاختفاء وهناك فرق هائل بينهما، ولو قاموا بالاختفاء فلا يوجد بنية تنظيمية تحمي الاختفاء وبالتالي سيتم العثور عليهم بسرعة، كل شعب بحاجة إلى أبطال وهناك مقولة "عندما يكون الشعب بحاجة إلى أبطال فتكون تلك مأساة.. الأبطال رموز تحشد وتعبّئ وتربي، وهذا مهم".

"هناك عادات مازالت تلازمني كما كنت في فترة الاختفاء، المشي في المكان، القراءة والكتابة، أستطيع أن أقضي أياماً في المنزل الآن" بهذه الكلمات يختتم الرفيدي سرده لنا حول تجربة الاختفاء وآثارها على تكوُّن شخصيته.