في البداية، كلاب مسعورة تركض، في شوارع مظلمة، تتخبطُ بالنّاس على الأرصفة، بالكراسي وطاولات المقاهي الليليّة، تنبحُ، وجوهها مسعورة، ملامحها غاضبة، كأنّها تثأر لنفسها، وهي بالفعل تُريدُ الثّأر أو الانتقام لنفسها، تركضُ بدون توقّف حتّى تصل إلى نافذةٍ صغيرة.
هناك، يطلُّ من النّافذة، وجهُ شخص غرقت ملامحه في كآبة مظلمة وتجاعيد بارزة: إنّه الجنديّ الإسرائيليّ، الذي لم يكن يقوى على قتل البشر، وقتل الكلاب التي كانت تَنبح عند دخول مشاة الجيش الإسرائيليّ إلى القرى والمخيّمات في جنوب لبنان. "ستّة وعشرون كلبًا.. أذكرهم جيّدًا، أذكر نباحهم جيّدًا"، يقولُ الجنديّ وهو يشربُ الكحول لصديقه – مخرج الفيلم وصاحبُ القصّة.
الصّراع الذي يُسيطر على الفيلم، هُو صراعٌ أوّلي مع الذّاكرة البشريّة
إذًا، منذُ البداية، الصّراع الذي يُسيطر على الفيلم "رقصة الفالس مع بشير"، هُو صراعٌ أوّلي مع الذّاكرة البشريّة. يتنبّه المخرج – الصّديق، أنّه لا يذكرُ شيئًا عن بيروت ولا حرب بيروت. ومنذُ عشرين عامًا، لا يذكر شيئًا، ولا يتذكّر أن كان له أيّة أحلام أو ذكريات تقلقهُ من وقتٍ إلى آخر كما يفعلُ هذا الحلم بصديقه وكلابه المجنونة. إلّا أنّ هذا الحوار القَصير مع صديقه عن كلابه المجنونة وبيروت، يحرّك في ذاكرته المفقودة، آثار حلمٍ قديم، يشبه الهلوسة، عن بيروت ومذبحة صبرا وشاتيلا.
الحلم، يجمع عناصر القصّة كلّها: بحرٌ وهو وصديقيه في هذا البحر قريبًا من الشّاطئ، شبهُ غرقى، ينهضون عراةً، ويلبسون ملابسَ الحرب، ويرون السّماء تُضاء بالقنابل، ويصعدون درج الشّاطئ إلى الشّوارع الخراب، ويمشون في زقاقٍ تظهرُ منه وجوه شبحيّة، نساءٌ ثكالى، وهنّ يبكِين بصمت، ويصرخن بصمت.
هذا الحلم هُو ما يَدفعُ المخرج – صاحبُ القصّة، إلى الجُنون في محاولة ترميم ذاكرته المفقودة، واستعادة مكانه من هذه الذّاكرة، في حقبة الحرب تلك. وتكون الأسئلة الأوّلية البشريّة: كمَن أنا؟ وماذا فعلت؟ وأين كنت؟ ولِماذا فعلتُ ما فعلت وكُنت حيثُ كنت؟ هي في هذا الفيلم، أسئلة حقيقيّة بمعنى الكلمة، حيث إجاباتها مفقودةٌ تمامًا.
وإذا غابَ البُعد النظريّ عن الفيلم، عدا عن البُعد النفسيّ، فإنّ غيابهُ قد يعود إلى أنّ الفيلم يبحث في الإنسان الإسرائيليّ، والإنسان الفلسطينيّ، كبشريّان، ليسا مجرّدين عن الصّراع، بَل كمنطقتين معزولَتين عن صراعيهما، حيثُ المجزرة هي المنطقة المُظلمة في ذاكرة الإنسان الإسرائيليّ بدافع الذّنب، والمجزرة هي المنطقة المُظلمة في عقل الفلسطينيّ، بِدافع الهَولْ. منطقة واحدة، يتشاركها الفلسطينيُّ والإسرائيليّ، لا يستطيعان الإقتراب منها دون أسئلة الوجود المجرّدة نفسها، ودُون أن ينتزع الإسرائيليّ خاصّة نفسه، من وجوده الإستعماريّ، ليُعيد رؤية ذاته في مراحل متعددة: من أوشفيتز ومعسكرات التّعذيب النّازية، إلى الحرب، إلى ما دُفِعَ لفعله – أو ما أراد فعله، إلى دَور النّازيّ مرّة أخرى، بحقّ اليهود الجدد وأوشفيتز الجديد – الفلسطينيون وصبرا وشاتيلا.
ومن خلال قصص أصحابه عن الحرب، كَيف شاركوا ولماذا، في محاولة منه للتعرّف وتركيب الصّور على بعضها البعض لعلّه يستطيع عندها أن يتعرّف على نفسه في قصص الآخرين – مراياهم، وانعكاسه في هذه المرايا. التي لم يستطع دائمًا أن يصدّق وجوده في داخلها، وفي أحيان أخرى، لم يكن قادرًا على أن يتعرّف نفسه في صوره الشخصيّة هو. ربّما ليس بدافع فقدان الذّاكرة وفقط، بَل ما تعتقد الذّاكرة عن صاحبها نفسه، ولذا، فإنّ آليّة الدفاع الخاصّة بكل إنسان، تمنعه حتّى عن الاقتراب من حدود هذه المنظقة، وأوّل هذي الحدود: صورته الشخصيّة في لباس المحارب الشّابّ.
في إحدى القصص، يَروي صديقٌ له، قصّته كشابٍ كان يُعاني من عقدة الشّاب الذكيّ العبقريّ، ومن حوله بشرٌ "يضاجعون بعضهم البعض كالأرانب"، طوال الوقت. "كان لديّ مشكلة رجولة.."، على حدّ وصفه عن نفسه. ومن هُنا تأتي رغبَته في الذهاب إلى الحرب، كي يُثبت للآخرين أنّه رجلٌ بحقّ. في هذه الحرب، لَم يستطع أن يكون ما أراد، وبدلًا من القِتال، يختبئ ويهرب، ويعود إلى "إسرائيل" خائفًا من عائلات أصدقائه الذين ماتوا وتركهم وراءه.
يرقص الفالس بَين مئات الرّصاصات الهوجاء والقذائف، من أجل لحظة أزليّة من متعة مراقصة الموت، أو مراقصة الحياة، من أجل لا شيء
شخصٌ آخر، يروى له كيف استطاع أن يرقص مع بشير بسلاح "الماج". وَجهٌ آخرٌ للإسرائيليّ، سنتكلّم عنه بعد أن نروي ملامح هذا الرّاقص للفالس. جنديّ، له طريقة في الحياة، عطر الباتشولي. رائحة قويّة، في ظلمة المعركة، يستطيع الآخرون التعرّف من خلالها إليه. عند دخولهم إلى بيروت، بعد مقتل بشير الجميّل، وعند منعطف طُرقٍ فاصل في معركة دخولهم إلى بَيروت، يقرّر هذا الرّاقص، أن يأخذ سلاح الماج – سلاح ثَقيل وأقوى من الرّشاشات العاديّة، أن يقوم بفعلٍ استثنائي. يأخذ الماج من رفيقه بجانبه، وينهض، ليرقص الفالس في وسط الطّريق، بَين مئات الرّصاصات الهوجاء وقذائف الآر بي جي، من أجل لحظة أزليّة من متعة مراقصة الموت، أو مراقصة الحياة، من أجل لا شيء.
كأن يقول إني باقٍ هنا أطلق الرّصاص وأرقص الفالس إلى الأبد. وبهذه الطّريقة، ربّما استطاعوا أخيرًا أن يعبروا مفترق الطّرق هذا، ليكملوا رحلتهم نحو صبرا وشاتيلا. يقول المخرج الرّاوي للفيلم: "بَينما كان بوعاز يَرقصُ الفالس بجانب صور بشير الضّخمة.. كان المتعصّبون لبشير على بعد مائة مترٍ، يحضِّرون للإنتقام من أجله".
الإسرائيليُّ ليس واحدًا وحيدًا في الفيلم. الرّاقص مع بشير، هُو الجنديُّ الصّلب الإسرائيليُّ الجديد. والجنديُّ الآخر الخائف من مشاكل رجولته، هو الإسرائيليُّ القلق داخليًا. في الفيلم يُعرضُ الجنديُّ الإسرائيليّ، كإنسان قَد دُفِعَ إلى الحرب، أُريدَ لهُ أن يكون بَطَلًا، أُريدَ لَه أن يُحقِّق صُورة الإسرائيليّ الجديد. ولكنّ الحرب حرب. والإنسان إنسان. في الحرب، يهربُ الجنود أحيانًا، وفي الحرب، تحتلُّ فِيلا ويشاهد فيها قائد الكتيبة العسكريّة فيلمًا جنسيًّا وينسى الحرب ومصائبها. وفي الحربِ، يرقصون الفالس في لحظاتٍ غريبة واستثنائيّة. وفي الحرب تُفقَدُ الذّاكرة. وفي الحرب تقتل الكلاب. هذا ما فعلهُ الجنود الإسرائيليون، وهذا ما كانوا يفعلونه طوال الوقت. إنّها ليست حربًا مقدّسة ولا تحملُ أيّ روعة. وإلى حدّ ما، دُفِعَ بهؤلاء الجنود، إلى أن يتقمّصوا شخصيّة النّازيّ.
في الفيلم هناك ارتباك واضح في التّعامل مع سُؤال أساسيّ: كَيف "أتحدّث" عن المجزرة؟ وما دوري في هذه المجزرة؟
في الفيلم إذًا، هناك ارتباك واضح في التّعامل مع سُؤال أساسيّ: كَيف "أتحدّث" عن المجزرة؟ وما دوري في هذه المجزرة؟ منذُ البداية وحتّى النهاية، تمثّل الهلوسة شعورًا بالذّنب، ورغبةً في الإدراك، هي رغبة طبيعيّة في كلّ إنسان: أن نعرف ما كنّا وما سنكون. لكنّها أيضًا تُشير إلى ارتباك أعمّ في التعامل مع مجزرة صبرا وشاتيلا دونًا عن أيّ مجزرة أخرى في تاريخ الصّراع العربي الإسرائيليّ. بالنّسبة للإسرائيليّ، فليس هُو من ارتكبها، ليس هو من أطلق النّار، وليس هُو من أمر بإطلاق النّار. هو من أضاء اللّيل في صبرا، ومن وهبَ النّور لهذه المجزرة كَي تتمّ بأتمّ الصور وأكملها.
والفلسطينيّ، صار لديه، فاشيٌ هنا، وفاشيٌ هناك. لا يستطيع الصّراخ بملئ فمه: الإسرائيليّ من ارتكب المجزرة. ولا يستطيع نسيان الأضواء اللامعة والحصار، وخروج مقاتليه والمُدافعين عنه تحت تهديد السّلاح والتّدمير الشّامل لبيروت ولبنان. ويعود السّؤال مرّة أخرى: كيف نتحدّث عن المجزرة؟
لهذا السّؤال أشكال عديدة في الفيلم. يسألُ الطّبيب النفسيّ راوي الفيلم والمخرج: هل هناك فرق في أن تكون ارتكبت المجزرة، أو أن تكون أضأتها؟ وأين كنت في وقت وقوعها؟ قليلًا قليلًا، يدرك الرّاوي - المخرج، أنّه كان على السّطح يُطلق القنابل الضّوئيّة في سماء المخيّم، طوال اللّيل، وبعد هذا الإدراك، لا يتكلّم. هو يصمتُ تمامًا، وتأتي صورة المجزرة، ويتحدّث عنه صحفيٌ إسرائيلي، رون بن يشاي، كان هناك ودخل إلى المخيّم. يتحدّث عن أكوام الجثث الهائلة، عن الدّمار الهائل، وهو نفسه أيضًا، قليلًا قليلًا، يدرك أنّ مجزرة قد وقعت هنا. وعندها تَعودُ صُور النّساء النائحات النّادبات في هلوسة المخرج وراوي القصّة، إلى الفيلم، وتعبر بنا الكاميرا زقاق المخيّم، إلى أن تستبدل الصّور الكرتونيّة بتقنية الأنيميشن طوال الفيلم، بصورٍ حقيقيّة، لنساءٍ فلسطينيّات، نجون من المجزرة، وليس من هولها وصدماتها. وقَبل لحظة واحدة من هذا التبدّل من الأنيميشن إلى الحقيقة، تحطّ الصورة على وجه الجندي المخرج راوي القصّة بوجهٍ كرتونيّ مصدوم، مرتبك، يدرك ما صنعت يداه ولا يُدرك في الوقت ذاته.
إنّ المخرج استطاع بذكاء أن يحيّد كلّ شيء جانبًا، ويروي قصّة إنسانيّة، بوضوح مرتكبيها، وبوضوح المُشاركين في صنعها، وفي صنع المجزرة في النّهاية. وقد يُقال، إنّ فيلمًا كهذا، قادر حتّى على إظهار الإسرائيليّ، بصورة الجاني، والضحيّة في آن. في أن يبرّئه وفي أن يُدينه في الوقت ذاته. لهذا صبرا وشاتيلا، تأخذُ حيّزًا مهمًّا في العقل الإسرائيليّ، هي الإدانة والبراءة في آن، هي ذاكرة الهُلوكوست والخَوف من تكراره مرّة أخرى. ليس خوفاً من تكراره في اليهود، بل في اليهود الجدد.
إنّ العقل الإسرائيليّ مسكونٌ بالهولوكست، ليس بصورة تمنعه من تكراره بالفلسطينيّ، بل بصورة تمنعه من تكراره بضميرٍ نقيّ وصافٍ، كأنّه أمرٌ طبيعيّ. وفي إشارة لهذا، يقول الطّبيب النفسيّ للمخرج هذا: "أنت مسكونٌ بالمجزرة من قبل حدوثها. هي تطاردك قبل وقوعها. أهلك، كانوا بأوشفيتز صحيح؟ - أوشفيتز معسكر اعتقال نازي، ولهذا أنت بحاجة لأن تعرف حقًا ما الذي فعلته هناك.. لكي تعرف وحسب". ولكنّ عرضًا كهذا، ومقاربة كهذه، تعيدُ إلى سؤالٍ أساسيّ: هل كانت صبرا وشاتيلا استثناء؟ هل المجزرة استثناء عند تضخّم فعل القَتل إلى حالة جماعيّة، ولِماذا تأخذُ المجزرة موقعًا في الذّاكرة أقوى وأكثرُ ظلمة من موقع القَتل المُستمرّ؟ ولهذا، قد يخاف الفلسطينيّ، أن تَصنَع الذّاكرة الإسرائيليّة نفسها بهذه الطّريقة. فطريقةٌ كهذه، فيها الضّمير المعذّب والإدانة الواضحة، طريقة قد تقول أنّ كل ما حدث ليس سوى استثناء، والمجزرة، ليست جزءًا من حرب مقدّسة، ولم يكن هناك حرب مقدّسة. ولكنّ الحرب المقدّسة قد تكون موجودة، والمجزرة قد لا تكون استثناءً، قد تكون لحظة من لحظات النّشوة في عقليّة القَتل والرّغبة في التّدمير النّاتجة عن جرحٍ قديم في الذّاكرة اليهوديّة متعلّق بالهولوكست، غضب مكتوم، يتفجّر في لحظات مشابهة لرقصة الفالس تلك.
اقرأ/ي أيضًا: