29-أغسطس-2017

أحمد حسين (موقع عرب 48)

إلى أحمد حسين..

لقد سقطت قطعة أخرى من فلسطين، في الواقع سقطت آخر القلاع القديمة تلك التي ولدت في زمن الخوف، وفرحت بحزنها كلّ مرة من جديد.

برحيل الشاعر أحمد حسين، علينا أن نتوقّف قليلًا كي نرثي أنفسنا، نرثي يتمنا وعُرينا ورخاوتنا في مواجهة الأنواء

الأستاذ الشاعر أحمد حسين ذاك الإنسان الدمث اللبق الودود، الذي يتحول إلى إعصار حينما يتم الحديث عن الثوابت، كان صخرة الصوّان العنيدة، كان البوصلة الواضحة التي لا لبس فيها. أتحدث عنه بصيغة الماضي غير مصدّق أن ذلك الصوت الراسخ العنيد قد توقف عن الصراخ في حقّنا الذي لا يتجزّأ في هذا الوطن.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا فشلنا في إقناعهم..؟!

وبرحيله علينا أن نتوقف قليلًا كي نرثي أنفسنا، نرثي يتمنا وعُرينا ورخاوتنا في مواجهة الأنواء دون أن نجد من نختبئ خلفه. نرثي تلاشي ملامح الوطن -الحلم برحيل صاحب الصوت الذي سمّاه توفيق فياض "أشعث الشعر العربي".

"نختلف الشاعر وأنا في الرؤية السياسية للمرحلة"، هكذا كتب لي أستاذي في تظهيره لديواني، بل وبادرني مازحًا وساخرًا مرّة بأن آرائي الليبرالية، رغم كوني يساريًا مرًّا، هي "أسكيمو عَ ليمون"، نجلس فتتلاشى الفوارق، فوارق الجيل، وفوارق العلاقة مع المرحلة، والفوارق بين شاعر مبتدئ مثلي وشاعر بقامته، ونصبح في نظره زميلين يتحاوران في الحاضر والماضي والمستقبل، لنرتقي ولو قليلًا من واقع مرير شحيح.

لقد كره أعداؤه من أذناب الصهيونية والأصوليين الذي تحدث عنهم في قصيدته "الخروج من الزمن الهجري"، وحتّى المتحزبين سلاطة لسانه، وعدم مهاودته ولو بشعرة عن الطريق، ولكنهم كلهم في ذات الوقت احترموه وهابوه لوثوقهم من حزمه وبنيوية قناعاته التي قدها من صخر وسار عليها مهما كان الثمن الشخصي، وقد دفع ذلك الثمن بكل سرور من أجل معشوقته الصغرى، التي هي أكبر من العالم/ ومن أجل معشوقته الكبرى التي رفض رفضًا قاطعًا أي مسٍّ بصورتها الرومنسية التي رسمها لها.

في آخر جلسة لي مع الشاعر أحمد حسين، أنا وزوجتي في المستشفى قبل رحيله بشهر تقريبًا، كانت جلسة شيقة كعادته، وكان صوته هادرًا وقويًا كعادته رغم المرض، لكنها كانت جلسة غريبة نوعًا ما، فقد كان متفائلًا جدًا من مستقبل الوطن العربي، وكنت أنا، المتفائل عادة متشائمًا، لكنني لم أستطع منع نفسي من "العدوى" بروح التفاؤل تلك، حيث خرجنا من عنده بشعور بهيج وأملٍ في مستقبل هذه الأوطان النازفة اليوم.

في ملحمتنا نحن البشر ضد الموت، يتشدق الهجريون بأن المعركة خاسرة بنظرات مستهزئة، ولكنهم قد أساؤوا تقدير خلود الفكرة التي تخلد صاحبها، وها أنذا أتخيلّه يقهقه ضاحكًا بضحكته القوية المجلجلة، عندما يرتد صدى كلامه على عقول القراء الذين أنضجت عقولهم كتاباته لتخلّده وتخلّد ذكراه، فتشمخ هامته وتتعملق غير آبهة بالطفيليات المحيطة.


اقرأ/ي أيضًا:

سلمان ناطور في سفره الطويل

بشار إبراهيم.. الأمل معلّق بالسينما المستقلة

منذر جوابرة.. عودة إلى دفتر الانتفاضة