كثيرًا ما فكرت بالسبب الذي يجعلني أشعر بعدم الراحة عند رؤيتي لأي رجل أمن في المحيط، سواء أكان رجل أمن حكوميّ، أم حرس جامعيّ، أم حراسة خاصة، وواقع الحال بعد تفكير عميق كنت أرفضه فيما مضى، أنني أشعر بالتهديد وعدم الأمان بوجود هؤلاء الأفراد، مع العلم أن الحكمة من وجود رجال الأمن وهذا واضح من اسمهم، هو تحقيق الأمن، وإعطاء الشعور بالأمان للمواطنين، ولهذا كانت هذه هي نقطة التحول بين ماهية رجل الأمن حقيقةً في فلسطين، ومثالية رجل الأمن في عقولنا.
دومًا، أفكّر بالسبب الذي يُشعرني بعدم الراحة في وجود "رجل الأمن"! ما الذي يدفعنا للخوف منه؟ هل هو الشكّ بكل من حولهم؟
إن ما يدفعنا للخوف من رجل الأمن هو بالغالب لأنه وكما هو مطروح على أرض الواقع، لديه سلطة تنفيذية للقيام بأعمال قمع أو عنف دون مساءلة أو مراجعة قانونية، وفي حال تواجد مساءلة قانونية تكون الذرائع جاهزة، أنه من الصعب القيام برقابة على هذه الأمور، لأن كل رجال الأمن يحملون معهم أدوات عنف من أسلحة مختلفة، ولديهم السلطة والقوة في المواجهة بحجة أنهم يشكّون بشخص ما، وقد يصل هذا الموضوع إلى الشك في هذا الشخص بأنّه تاجر مخدرات أو موزّع أو له علاقة ببيت دعارة، وما إلى ذلك من اتهامات تبرر فعل استخدام العنف والتوقيف أمام المحكمة. ولهذا نرى طبيعة رجال الأمن متلخصة في اعتيادهم على الشك في كل من حولهم، وفي بعض الأوقات الشك في المقربين منهم، وكتابة تقارير عنهم، وكل هذه الحالات هي هوس وظيفيّ ومحاولة تماهي.
التماهي وأبعاده في المنظومة الأمنية
يرد في كتاب "التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" لمصطفى حجازي، مصطلح "التماهي"، ويتم إسقاطه في عدة أبعاد على المنظومة الأمنية والمجتمعية، كوصف لكثير من التصرفات والأفعال العامة التي تصدر عن مجمل أفراد المجتمع، وكي لا نذهب بعيدًا قبل توضيح معنى "تماهي"، نستطيع القول بأنّها في اللغة ممتدة من كلمة ماهيّة، وتعني اصطلاحًا محاولة صبغ ماهية - طبيعة – شخص آخر على طبيعتك، وبالتالي الاقتداء بهذا الشخص في بعض المواقف أو التصرفات، دون العودة إلى حقيقة رؤيتك أو حقيقة تصرّفك كشخص مستقلّ تجاه هذه المواقف.
اقرأ/ي أيضًا: بدّك تصير عسكري؟
إنّ كل بنية مبنيّة على العنف أو القهر هي مناخ خصب لتماهي الأفراد المعنَفين مع المعنِّف، وهذا يعود أساسًا لعدّة أسباب، ونستطيع أن نذكر الرئيسة منها كالآتي: كل من يقبل بتعلّمه وتطوّره في هذه الظروف المقامة على فكرة العنف لن يرفض أبدًا بل وسيرغب بأن يكون الطرف المعنِّف في يومٍ ما، وهذا لرغبته برؤية نفسه كمعلم أو موجّه وليس كطالب أو طرف أضعف، وكل من يرضى بوجوده في هذه البيئة لن يرضى أن يخرج منها لاعتقاده بأنها أفضل وسيلة تعليم، أو امتثال أمام الواقع والحق (باعتقاده).
إنّ كل بنية مبنيّة على العنف أو القهر هي مناخ خصب لتماهي الأفراد المعنَفين مع المعنِّف
كل من يترعرع أو يتعلّم في ظروف تعنيف يبني أفعاله وردود فعله داخليًا على منطق قريب من منطق الاستجابة الشرطية، أي أنّ الخطأ أو التمرّد أو عدم الخضوع للأوامر يؤدي بالضرورة إلى العقاب (العنيف تحديدًا)، ولهذا لا يستطيع أن يتخيل أيًا من الأفعال السابقة دون ربطها بالنتيجة، وفي حال غياب العقاب عن أرض الواقع، سيبقى حبيس فكرة العقاب والخوف من العقاب لما ينتج عنه من آلام جسدية وأزمات نفسية.
ما يفعله أسلوب التفكير بطريقة الاستجابة الشرطية بالأساس هو برمجة غير مباشرة للدماغ على التعامل مع المعطيات والنتائج كجهاز مبرمج ومحوسب، ولهذا يصعب على هؤلاء الأفراد التفكير أو التعاطي مع الأمور بحيادية دون التفكير بضرورة وجود عقاب ونتيجة حتمية، أو في أوقات أخرى مكافئة، ويصعب عليهم أيضًا تلقي معطيات مختلفة عن ما تعلّموه داخل هذه المنظومة، أي أنّها تحوِّل الأفراد إلى أشياء لا تستطيع التشكل بمرونة، أو التفكير بأفق أبعد قليلًا من العقاب والثواب.
اقرأ/ي أيضًا: قبضة الأمن
إنْ تطرقنا لبعض الأفراد الذين يشكل التماهي الجزء الأقل من تفكيرهم، فإن هؤلاء الأفراد لديهم بالأساس الخوف من عدم الانخراط في هذه المنظومة، واضطرارهم لتحمّل مسؤولية ابتعادهم عنها، وبالتالي وخوفًا من العقاب فقط، يدخلون هذه المنظومة دونما تفكير، لهذا نرى العديد من الأفراد ذوي الأهمية الأقل في منظومة أمنية أو قمعية يشكلون ساعدًا أيسر يقوم بمهمات صغيرة تنوء بالوجود القمعي إلى الأساسية عوضًا عن إلغائها، ولهم من الجوائز عدة أشكال منها بيروقراطية وجودهم في ظروف رسمية تسمح لهم بالتنقل داخل دوائر مغلقة بطلاقة، دون شعورهم بالانتماء الحقيقي إلى هذه الدوائر، ولكن بمعزل عن رغبتهم الداخلية والحقيقية بالخلاص من سجن الخوف "مثلًا كوجود أصدقاء لعناصر أو مسؤولين في أجهزة أمنية، ليسوا موظفين رسميين، لكنّهم يخافون من رفض هذه العلاقات ويشعرون بالأمان في الوجود بقربها".
القمع وعلاقته بالتماهي في الأمن والمجتمع
من المعروف أنّ الأساس المستخدم للتأديب والتدريب في التدريبات العسكرية والأمنية هو العنف والضرب والعقاب الجسدي، ويتعدى الموضوع الجسدي موضوع الإخضاع والامتثال أمام القائد، أي أن فرد الأمن لا يستطيع التفكير أو رفض ما يؤمر به، وإن فعل فإنه يصبح عرضة للقمع والعقاب، وخوفًا من وجوده وحيدًا في خانة الرافض أو المتمرّد، فإنه بالضرورة سيبقى في خانة الممتثل والمتسامح مع فكرة الخضوع وتقبل الأوامر جميعها، وبعدها تتطور الحالة إلى التماهي، أي أنّه في حال وجوده في نفس المكان والمحيط الذي أعطى لقائده الصلاحية بقمعه وإعطائه الأوامر، فإنّه سيقوم بالقمع بنفس الشكل الذي تعرّض له من قبل، ويتم إسقاط هذه الحالة على كل فئات المجتمع وكل الوظائف الموجودة، ولهذا فإننا نستطيع القول بأن هذه الحالة تخلق ما يسمى بسلسلة القمع التي تمثل شكلًا هندسيًا مغلقًا، لا بداية له ولا نهاية، ويتميّز بأنّه مستمر ولا يتوقف، إلا في حالة انكسار هذه السلسلة في نقطة ما.
اقرأ/ي أيضًا: عن موظف الدعم الفني: المقموع والقامع
في أحيان كثير، تعطي هذه السلسلة القمعية إشارات إيجابية تجاه القمع بدرجاته العالية، أي مثل السجن أو العسكرية، ويصدر عنها عدة جمل تطرح بشكل شعبي وعفوي ولكنّها في الحقيقة تعبّر عن خضوع ورضوخ داخليّ نحو هذا القمع، مثل "السجن للرجال" أو "العسكرية بدها زلام" أو "إنت لازم تروح عالعسكرية عشان تتربى"، وما إلى ذلك من جمل تتمحور حول جمال العسكرية أو النتائج الجميلة للسجن، وهذا تحديدًا ما تحاول سلسلة القمع والأفعال العنيفة إقناع الناس به، وهو جمال وجود الأفراد بشكل خاضع وممتثل أمام أوامر فرد أو منظومة.
مصدر الأوامر، فرد أم أكبر من ذلك
عادة ما ما يصدر عن الشعب شتائم على زعيم أو على رئيس، لكونه ظالمًا أو غير وطنيّ، أو اتخذ قرارات غير مناسبة للشعب، أو لغيرها من الأسباب، ولكن يجب النظر في بُعد أعمق من اعتقاد أنّ الرئيس أو الرمز الأوحد هو من يجلس في مكتب طوال اليوم فقط لأخذ قرارات تجاه كل تفصيلة تتعلق بالشعب، إنها منظومة كاملة لها سادتها وتلاميذها، وهي تغذّي نفسها لأنها وجدت السبيل إلى الرسوخ في عقول الشعب، ولهذا هي ليست بحاجة دائمة إلى تطوير نفسها، إلّا في حالة وجود تهديد من جماعة أو شخص. ولهذا نستطيع القول بأن ما يحكم هذه القرارات هي دولة عميقة، أو منظومة عميقة لا تتعلق بالأفراد نفسهم، بل تتعلق بوجود الفكر السلطوي والتوجّه نحو الهيمنة والسيطرة من قبل مجموعة من الناس والأفكار، إنّها أسلوب حياة وتفكير كامل، لها تاريخها ومستقبلها، ويجب على الجميع الاعتراف بهذا، وعدم تجاهله، لأنّه بالضرورة قد يحوّل ما هو تطور وثورة إلى ما هو عنف ورجعيّة.
فرد الأمن لا يستطيع التفكير أو رفض ما يؤمر به، وإن فعل فإنه يصبح عرضة للقمع والعقاب
يعتبر مصدر الأوامر المكان الذي يستحيل معرفته بشكل فيزيائيّ واضح، ومنظومة مترسّخة كمنظومة العنف، تستطيع أن تفتعل الأسباب اللازمة لتحريك جيوشها دون أي خوف من تفكيرهم في طبيعة ما يقومون به، وهنا تسطع أمامنا فكرة المبرر أو الوسيلة التي تستخدمها هذه المنظومة من أجل تبرير قمع الأمن للشعب، وأيضًا قمع الشعب للأقلية، وبكل ذكاء ووضوح تميل السلطات خاصة في الدول التي يحكمها الطابع الديني إلى استخدام المحرّمات كغطاء لترسيخ وجودها، أي استخدام الدين، أو الوطن، أو الشرف، والعديد من المبررات التي تشرعن اتخاذها لعدة إجراءات وقوانين، ومن الأمثلة على ذلك ما صدر تجاه المفطرين علنًا في رمضان، وهو أمر لا علاقة له بالدين أو بالحميَّة الدينية، بيد أنه قرار له علاقة بترسيخ فكرة أن النظام والسلطات موجودة وتراقبك في كل تفاصيل حياتك، وحتى أنها تستطيع أن تعاقبك بكل راحة دون حتى مساءلة من الشعب عن عدالة هذا العقاب أو نتيجته، أي أنها في مثل هذه الحالة تعطي لنفسها تصريحًا إلهيًا يؤكده الشعب من أجل معاقبة الأفراد الذين يحاولون (بوعي أو دون وعي) إثبات وجودهم الحرّ.
اقرأ/ي أيضًا: تعامل السلطة مع الإعلام.. محاولة لفهم الجنون!
كل ما ذكر سابقًا عن منظومة القمع والتماهي، هو بالضرورة نتيجة أو مسبب لما قد نسميه بـ "المجتمع الأبوي" أو بمصطلح أخر "بطريراكي"، أي أنه تابع لسلطة شخص على شخص بعلاقة عمودية تلغي نديّة المواجهة أو التفكير، وتؤكد على وجود متحكم ومنفذ، والعلاقات الأبوية لا تحتمل خطأ الأب، بل تتمحور بالأساس حول التزام المنفّذ بالأوامر، وعقابه في حالة الزلل، وكما يتم إسقاط التماهي والقمع في كل العلاقات الموجودة في المجتمع، يتم طرح طبيعة العلاقة الأبوية في كل مكان أيضًا، ونستطيع بالتأكيد رؤيتها في كل التفاصيل حولنا، علاقة المدرس بالطالب في الجامعات والمدارس، علاقة الأب بالابن في المنزل، علاقة المدير بالموظف في العمل، علاقة كبير السن بالشاب في كل مكان، وهنا لا يُقصد فساد أو عدم أهلية المتحكم أو الأب، ولكن يقصد أن كل من يمارسون هذا النوع من العلاقات هم بالضرورة جزء من سلسلة القمع والمنظومة الأمنية هذه، وكل من هو في هذه السلسلة حتى ولو لم يدافع عنها، فإنه يغذيها بوجوده فقط، وهذا يفرض ديمومة وجود القمع والعنف في كل مكان وأهم أشكالها الواضحة هي "الأمن".
أشكال القمع المفروضة
بعد كل ما تم طرحه في المقدمة يجب الآن رؤية ما يوجد حولنا من أشكال وأوجه للقمع ومحاولات ترسيخ وجود المنظومة المبنية على العنف، وأكثر ما ورد حولنا من هذه الأشكال هي حجب بعض المواقع الإخبارية، وهنا لا ننسى أن هذا الحجب كان بأمر من النائب العام، أي أنه يوهم المواطن أن هذا القرار مأخوذ بحياد سياسي، وبمستوى قانونيّ صحيح، قد يصعب على الشعب فهمه.
اقرأ/ي أيضًا: حجب المواقع الفلسطينية.. هيَّ فوضى!
أيضًا قرار اعتقال المفطر علنًا، هو إثبات لكل من يحاول الولوج إلى منطقة السلطات أو النظام دون التزامه بالقواعد الأساسية لهذا النظام، إنه يستطيع وبكل بساطة مراقبة وتشكيل كل تصرفاتك، وهنا يبدأ البحث عن البيئة الخصبة لهذا الطرح القمعي، وهنا نرى أن شهر "رمضان" كان الضحية في محاولة النظام إثبات نفسه كمحام إلهيّ أو مُدافع عن ما يسكن قلوب الناس من دين أو ورع، أي "محرمات"، ونذكر أيضًا الحواجز التي تتواجد كثيرًا على أطراف المدن "رام الله تحديدًا" بإيهام أنّها موجودة من أجل البحث عن المطلوبين للعدالة والقانون، ولكن العدالة لم تطرح يومًا من هم المطلوبون، أو لم تكن واضحة أبدًا تجاه هذه القضية، وهذا ما أوصلني في عدة أوقات إلى الشك في نفسي، واعتقادي بأنّي أنا أيضًا مطلوب للعدالة أو القانون، وهنا نعود لقضية وضع القوانين أو التشريعات في ظروف ضبابية تجعل المواطن يشعر بأنّه لن يستطيع فهمها، وأنها أعلى من مستوى استيعابه، وعلى هذه الحواجز قد يتم توبيخك، أو ضربك، أو التعامل معك كمتهم يتم التأكد من هويته، وكلها أشكال دفاعية لمحاولة تثبيت أقدام القمع كنموذج في الرتبة الأولى، بنجاعته بين كل أدوات الحكم.
اقرأ/ي أيضًا:
فيديو | مجلس طلبة الجامعة الأمريكية يقمع حوارًا بحجّة الإلحاد