عند السّفوح الشرقية لجبال رام الله والقدس، تتجمّع أمطار المياه في أودية متفرّعة، لتشكّل ما يُعرف بـ "واد صوانيت" أو "السونييت" شرق قرية مخماس، والذي يسير في مسار ضيّق، حاملًا المياه ليرفد وادي القلط.
أهمله أهله، وتركوا للغرباء مهمة التنقيب والاستكشاف، ليسرقوا الدلائل التاريخيّة التي يحويها، ويعيدوا كتابة تاريخ مزوّر لا يُشبه الواد!
الواد الذي تعاقبت عليه حضارات، وشهد عصر الرهبنة والتعبّد، تكاد لا ترى حياةً فيه هذه الأيّام، باستثناء بعض رعاة الأغنام الذين لجأوا إلى عُزلته وكثرة كهوفه، مُشكّلين آخر السّهام في جُعبة العربي المنزوعة منه أرضه لصالح استيطان اعتلى التلال التي تُشرف على الواد.
اقرأ/ي أيضًا: المفتول: طبخة النَّبي سليمان!
لعلّ جولة سير على الأقدام بين جنبات الوادي، كفيلة بإبهارك بتاريخه، والحضارات التي تعاقبت عليه، والتنوّع البيئي فيه. ورُبما مثل هذه الجولة تُغنيك عن قراءة هذا المقال، لكن، وإلى ذلك الحين، من الجيّد أن تتعرّف على هذا الوادي في هذه السطور.
بكل شغف، تراقب صقرًا ذهبيًّا ينقضُّ على فريسته في مجرى الوادي؛ ليصطادها ثُم يحلق بها، وتصلُ بك الدهشة حدّ العجز عن تحريك عدسة الكاميرا.
في الوادي أيضًا، لن تملّ سماع زقزقة الطيور وتتبع رفرفتها حولك بألوانها وأنواعها. وسترى حيوان "الوبر الصخري" الذي اتخذ من صخور الوادي وتجاويفه مسكنًا. وبالطبع ستشاهد الغزلان والثعالب والنّيص. وستتوقف أمام صَومعة منقورة في أعالي الصخر، تتساءل عن السبيل لبلوغها؟!
اقرأ/ي أيضًا: بالصور: رحلة إلى بيت لحم.. عجائب فلسطينية
على طول نحو 20 كيلومترًا، من شرق قرية مخماس حتى نقطة التقاء "واد الصوانيت" مع "واد فارة"، حتى بداية "واد القلط" تُطالع على جانبي الواد تجاويف وكهوف وعلّيات ومعاصي وخرائب وآبار وجدران وأنقاض قلاع كانت عامرة في أوقات زمنية سابقة.
الحفريات الأثرية في المكان خلال القرن الماضي، أظهرت تاريخًا ممتدًا من العصر الكنعاني القديم حتى العصر الإسلامي الأوّل. ويقول العلماء الذين نقّبوا واستكشفوا الواد، وعين الصوانيت، ومغارة إلجاية (الجي)، وصوامع الرهبان (العليّات) إنّ أهمّ الحُقب التاريخية وأغناها هي (الرومانية/ البيزنطية).
وعلى بُعد خمس كيلومترات، من بداية الواد غربًا، دخلتُ كهفًا في أعلى السفح الجنوبيّ المشرف على مجرى الواد، كان له باب متسِّع، ويظهر أنّ الدّمار قد حلّ بالكهف، وغيّر من معالمه بانهدام أجزاء منه، فيما بقيت بعض شُرفاته مُعلقة يصعب الوصول إليها.
في الطرف الشرقيّ للكهف، ثمّة بئر ماء لا يزال فاغرًا فاه، وله قناة منقورةٌ في الصخر المُجوّف بفعل عوامل الحتّ والتعرية. وهو نموذج لعشرات الكهوف الكبيرة المُنتشرة على جانبي الوادي والتي يُستخدم غالبيتها كزرائب للأغنام هذه الأيّام، وقد بات من الصعب معرفة تاريخها وما حوته في زمن مجدها الغابر.
ولعلّ أعظم كهوف الوادي وأهمها، هو كف الجيّ (إلجايه) الذي أجريت فيه حفريات أثرية عُثر خلالها على أواني فخارية وزجاجية وبقايا أدوات طبخ وأباريق وجرار وإبرة حديدية كبيرة. وقد دلّ ذلك على أنّ الكهف سُكن في العصر البرونزي والنحاسي والحديدي والروماني والبيزنطي والإسلامي المُبكر. وبأنّه استخدم كملاذ وملجأ للفارين من الدّولة في حقب مختلفة.
والكهف يُدخل إليه عبر باب من الشرق، مُكون من شقين تعلوهُما طاقة حُفرت بعناية، وقاعة الكهف بيضاوية الشكل، تمتد بشكل طولي إلى اليمين حيثُ كهفٌ آخر مندمجٌ معه، وله نافذة مُرتفعة تُطل على الوادي من الجهة الشرقية الشمالية، وفيه تجاويف وشقوق وممرات وركام وترسبات، ويظهر فيه بوضوح أثر التنقيب غير الشرعي المُستمر حتى اليوم.
وتقودك قاعة الكهف البيضاوية إلى فضاء مُتسع شمالًا ينتهي بعدة سراديب وأنفاق ممتدة إلى الغرب والجنوب والشرق، وتدخل إليها حبوًا، ثُمّ يكون التّنقل داخلها مشيًا وحبوًا. مُشكلة متاهة وملجأً في باطن الأرض، لا يُنصح بدخولها من غير مَعدّات واستعداد، لخطورتها وجهل ما فيها.
اقرأ/ي أيضًا: بالصور: رحلاتٌ إلى سماء فلسطين
أمّا صوامع وأديرة الواد المهجورة، والتي تُسمّى "علّيات" فهي من أهم ما في الوادي، وهي شاهقة الارتفاع وليس من السهل الوصول إليها. ومنقورة في الصخر كتجاويف داخلية، وربما كان أصلها طبيعيًا ثُم أحدث النُساك عليها إصلاحات وحفريات حتى صارت بهذا الشّكل. ويُعتقد بأنها تعود للقرن الثالث حتى السابع الميلادي.
وقد جرت عمليات تنقيب ومسح أثري لها، أظهرت أهميتها وتنوعها، ووجود حمامات وآبار فيها، وكتابات سريانية ويونانية وإغريقية، ورسومات ونقوش لمصابيح ونجمة خماسية وصلبان على حوائط تلك الصوامع.
وهذه العليات مُنتشرة على الجانب الشمالي من الوادي بكثرة، مُشكلة تجمعات مُستقلّة، كما أن هُناك صومعة أخرى في جنوب الوادي إلى الشرق من مغارة الجيّ.
على حِفَّة المُنحدر الجنوبي المُطل على الوادي، وعلى يمين الطريق المُتجهة شرقًا إلى مغارة الجيّ، تقع عين صوانيت بين صخور كبيرة ليس من السهل الاستدلال إليها لأنها مَخفية في مَغارة صغيرة يُنزلُ إليها عبر مَمرٍ ضَيّق بطول مترين، ينتهي ببركة صغيرة في جوف المغارة تتجمع المياه فيها.
في محيط المغارة، جرت عمليات تنقيب عُثر خلالها على أدوات صوّانية كثيرة مُعظمها من العصر الحجري الجديد، وبعضها من العصر البرونزي، كما عثر على فخار كثير من العصر الكنعاني القديم.
تجذبك بُصيلاتُ نرجس بري نبتت على طول مجرى الوادي، غير أنّك لا تستطيع أن تُغادره قبل أن تنفض ما علق بك من ماء الصرف الصحي، الذي يندفع في الوادي ويدمّر بيئته. وكأنّه لا يكفيه حرمانه من أهله وزراعتهم، وتطويقه بالاستيطان، حتى تلاحقه المياه الملوثة.
اقرأ/ي أيضًا:
الاستغوار.. رياضة الفلسطيني في أرضه