أحد الأماكن المفضلة لديّ في مدينة جنين، هو ما يسمى سوق "الرّابش" أي السوق الشعبي، وفي مناطق أخرى يسمى "سوق البالة" أو سوق "العُتَقْ" برواية بعض أهالي الخليل. أصل التسمية يعود إلى الكلمة الإنجليزية "rubbish" التي تعني القمامة أو الشيء المهترىء، ولعل هذه التسمية تعود إلى عهد الانتداب البريطاني.
يدفعني إلى ذلك المكان حبّي للأشياء القديمة والأشياء الغريبة أيضًا، والتي أحب أن أنظر إليها أكثر من أن أقتنيها. أحب مشاهدتها بفضولٍ غريب، كأني أبحث عن شيءٍ ما، لكني أعرف أنه لا يخصني. أبحث عن ذاكرة الآخرين، عن تفاصيل حيواتٍ ليس لي دخل فيها، لكنها تملؤني بالحنين، للماضي جاذبيةٌ عتيقةٌ لها ملمسٌ قويٌ ورائحةٌ حيّةٌ تتجسد في وجودنا نحن، لولا الماضي لما كنا الآن، الماضي يختلف عن المستقبل الذي قد لا يكون. إنه أمرٌ حدث وكان هناك ونحن متأكدون من حقيقته، لكنه مع ذلك مجهولٌ وغامض. فكرة أن يكون الشيء ثم ينتهي، يموت أو يختفي، فكرة تسبر الماضي بهالةٍ أسطوريةٍ أو ملحمية.
للماضي جاذبيةٌ عتيقةٌ لها ملمسٌ قويٌ ورائحةٌ حيّةٌ تتجسد في وجودنا نحن، لولا الماضي لما كنا الآن
لماذا ينجذب الناس للأشياء العتيقة، والأشياء القديمة، وحتى الخردة في بعض الأحيان؟ يجيب البعض لأن الأمس أجمل من اليوم. لكن لماذا هذا الاعتقاد بأن الأمس أجمل، ما الذي يجعل الناس يستسلمون لهذه الفكرة الأقرب إلى كليشيه مخادع. ليس الأمس أجمل، لم يكن أجمل، قد نجد الوجه الجميل للماضي في المتاحف وكتب الفنون، وكتب الشعر والخيالات، وربما في سوق الرابش. لكن كتب التاريخ تؤكد أن للماضي، كما للحاضر، وجهٌ قبيحٌ ودموي. ما الذي يجعل الأمس إذن أجمل في عيون جيل لا يعرف عن الأمس سوى الأغنيات الجميلة والصور الرومانسية وقطع الأنتيك؟ يخيل إلي أنه الغموض، مثل الإضاءة الخفيفة على المسرح التي تجعل المشاهد سوريالية.
اقرأ/ي أيضًا: الأمل فيهم ذروة اليأس يا صاحبي
عمّ أبحث في سوق الرابش؟ أبحث في العادة عن قطعٍ صغيرةٍ، إطارات صور أو أصص للورد، أقراصٌ مدمجةٌ لأغانٍ بلغاتٍ مختلفة. أحبّ قطع الزجاج وأطقم السفرة، لكنني لا أجرؤ على شرائها مهما بدت جميلةً ونادرة، تجتاحني صور مالكيها وهم يأكلون منها، ويتبادلون أطراف الحديث تحت إنارةٍ صفراء خافتة، في بيتٍ صغيرٍ في مستوطنةٍ أو ضاحيةٍ من ضواحي مدن إسرائيلية. هذا بالطبع لأن معظم ما في الرابش يأتي من "إسرائيل"، فكرة كهذه أصبحت ترعبني، لكنها لا تمنعني من الذهاب بين الفينة والأخرى إلى السوق، وإن لم أجرؤ على شراء آنية الطعام التي تحمل ذاكرة صهيونيٍ قديمٍ جاء من رومانيا، وجلب معه طقمًا خزفيًا للبهارات، مكتوبٌ عليه باللغة الرومانية: “شاي، سكر، فلفل، …”. أتساءل لم ليس هناك إناءٌ للقهوة، هل فقد الإناء في رحلته الطويلة إلى هذا المكان البالي، أم أن يهود رومانيا لا يشربون القهوة؟ أنظر طويلاً إلى الكلمات، تغمرني بحزنٍ ثقيل صورة هذا اليهودي القادم من بلادٍ بعيدةٍ إلى هنا، ويجلب آنية بهاراته معه، ماذا جلب أيضًا معه؟ هويته، ولغته، وآنيته الخزفية، وماذا كان يفعل هنا؟ هل كان جنديًا، هل أصبح ضابطًا، هل كان عضوًا في العصابات المسلحة؟ لكنّه مات في النهاية، هكذا يخيّل إليّ، ولم يرث آنيته الخزفية أحد، أنظرُ إليها وأتعجب كيف انتهى بها الأمر على رف مهترئ في مدينة جنين.
قطع يدوية في غاية الجمال، تُباع بأسعار عالية نسبيًا، باعتبارها "أثرية"، وللبائع زبائن أذواقهم رفيعة، يجمعونها ليزينوا بها "الفِلل" الواسعة
في المحل المقابل ألمح عددًا من قطع “الجاروشة” القديمة، التي كان يستخدمها الفلاحون لطحن الحبوب. قطعٌ يدويةٌ في غاية الجمال، تباع بأسعارٍ عاليةٍ نسبيًا مقارنةً بالمعروضات الأخرى، فالبائع يعدها قطع أثرية، وله زبائن أذواقهم رفيعة يحبون جمع مثل هذه القطع، ليزينوا بها “الفِلل” الواسعة. أعرف زوجين من هؤلاء، تشكل زيارة الرابش إحدى طقوسهم كلما قدموا إلى مدينتهم جنين في زيارة، يؤثثون بيتهم بقطعٍ نادرة، يجدون الكثير منها في هذا السوق، لا يحالفني الحظ كما يحالفهم، اليوم وجدت جاروشة، وركوة قهوةٍ قديمةٍ ربما امتلكها بدوي أصيل، تغمرك رائحة القهوة بمجرد النظر إليها، لكنني لا أحمل ما يكفي من المال، فأكتفي بقرصين مدمجين أحدهما لتشايكوفسكي، والآخر لمغنٍ روسيٍ قديم. أحب تشايكوفسكي، حزنه المبهج، لكنّه ليس كالجاروشة. هذا القرص المدمج الذي يقول باللغتين الروسية والعبرية “تشايكوفسكي”. أقرؤ اللغة الروسية، لكنني نسيت العبرية، وقد تعلمتها منذ وقتٍ بعيد، ونسيتها، كيف يمكن للإنسان أن ينسى شيئًا قضى وقتًا طويلاً في تعلمه. هكذا اختفت من عقلي، والآن لا أعرف سوى أغنية الأحرف الأبجدية. ربما هو الخوف أيضًا، من هذه اللغة، فأنا أقع بسهولةٍ في حب اللغات، لن أدع لغة العدو تفتنني وتفتح بداخلي أبوابًا خلفية لعلاقةٍ لا أحد يعلم أين ستودي بنا، سأنساها أفضل، لكنني سأحتفظ بالقرص المدمج.
ورغم كل هذه الحيرة سأحب دومًا زيارة هذا السوق، والاستغراق في مطالعة أشياء صغيرةٍ مبعثرة هنا وهناك، أجزاء ذاكرةٍ قديمة، لأشخاص عاشوا وربما ماتوا. بعضهم جاء من مكانٍ بعيد. لا تعرف أبدًا ما الذي قد تجده في هذا السوق، قد تعثر على قطعةٍ أثريةٍ غالية الثمن، لكنها بالتأكيد ستكون أغلى بكثيرٍ بعد سنواتٍ عدة. مثل الأدوات الزراعية القديمة التي استخدمها الفلاحون الفلسطينيون، أواني الطبخ وتحضير الطعام، جنيهاتٌ فلسطينيةٌ قديمة، لوحات. مجرد النظر إلى هذه الأشياء القيّمة التي تتستر خلف الغبار وبين الأغراض المهترئة متعة بحد ذاتها.
ليس هناك حدٌ لما يمكن أن تجده، ملابس أو آنية خزفية، تحفٌ من بلادٍ مختلفة، أدواتٌ كهربائيةٌ قديمةٌ وأثاث، لوحاتٌ وثرياتٌ فقدت بريقها وحضورها. الاستهلاك والموضة تتحكم بعمر الاستخدام وعمر الجمال لكثير من هذه الأغراض. أشياء كثيرة غير قابلةٍ للاستخدام أصلًا، أجهزة راديو معطلة، كاميرات قديمة لن تجد لها "الفيلم" المناسب. إنها ذاكرة سنوات مضت، كلها معروضة، بأسعارٍ بخسةٍ فتحول السوق إلى متحف، متحف لتفاصيل الذاكرة اليومية. لكنّها أيضًا ليست ذاكرتنا وحدنا. ذاكرة من أسأل نفسي كلما تذكرت آنية البهارات الرومانية. هذا المكان الذي تختلط فيها الذاكرات، لكنّ كثيرون لا يجدون بأسًا في ذلك، لا يفكرون كثيرًا بمن امتلك هذه الأغراض، طالما أنها جميلةٌ أو رخيصةٌ أو نافعة. فمن يأتي إلى هنا مدفوعًا بالفضول أو الحاجة قد لا يدرك أنه يمشي في الساحة الخلفية لذاكرة أعدائه.
اقرأ/ي أيضًا: