سألنا عن الشيخ الشهير في بلدة اليامون شمال غرب مدينة جنين؛ فأرشدنا المارّة إليه. الوقت قبل أذان المغرب بقليل، نزلنا عن سطح الشارع مقدار درجتين؛ إلى غرفةٍ مستطيلةٍ ضيّقة، تقيس مترين بثلاثة. وجدنا الشيخ علي المفلح منهمكًا في خياطة حذاءٍ عتيقٍ متخلخلٍ يشبه جدران الغرفة ودهانها والأدوات التي يخيط الشيخ بها.
"سكافي"، بمعنى مصلِّح أحذية، هذه الشغلة "الدُّنيوية" الوحيدة التي يضطر الشيخ للانشغال بها عن العبادة؛ كي يجني قوت يومه، هذا ما أخبرنا به لاحقًا.
نزلنا الدرجتين وألقينا السلام، وجلسنا ننتظر انتهاءه مما في يده، دقيقةٌ ودخل فتى يدعى جبر يقارب عمره 15 عامًا، وقال للشيخ: "أبوي بقولك تعال عنا عالدار، إنت والمشايخ دقوا العدة وامدحوا النبي وقولوا قرآن عشان أخوي انكسرت إيدو وطاب".
تتراجع الصوفية في فلسطين بشكل عامٍ، لكنها لا تزال حاضرةً بقوةٍ في بعض المناطق مثل جنين وتحديدًا بلدة اليامون
وافق الشيخ لكنه طلب التأجيل إلى بعد المغرب، لأنه صائم، فرد جبر، "إنت بس تفضل يا شيخ وبنجهز الأكل بتفطر عنّا".
اقرأ/ي أيضًا: الختامة.. فرحة اندثرت في نابلس
سألنا جبر وهو يهم بالخروج؛ عن مدعاة ذلك، فأوضح لنا أن دق العدّة في البيت يطرد منه النحس والشياطين. بعد قليلٍ رُفع أذان المغرب، وصلى الشيخ في المسجد القريب، ثم ذهبنا مع نفيرٍ من المشايخ وبدأت المراسم.
ما هي الصوفية؟
الدراويش، أولياء الله الصالحين، الأتقياء، الكرامات، المقامات، مرفوع عنهم الحجاب، مولانا، سيدي الرفاعي، زاوية الشيخ، دقّ العدة وحمل الأعلام، الفاتحة على رُوحْ سِيِدْنا النبي، مدح النبي، البخور، البازة والنوبة والكاسات والدف... الله الله، الله حي الله حي. عندما نعثر بشيءٍ من قبيل هذه الألفاظ، نفكّر مباشرةً بالصوفية والصوفيين والمتصوّفة.
وتعتبر الصوفية مذهبًا إسلاميًا. مع أن الصوفيين يرفضون اعتبارها مذهبًا؛ فهم يرونها الطريقة الأصوب في تفسير الإسلام وتطبيقه.
وتُنسب أسماءٌ لامعةٌ في التاريخ الإسلامي إلى المذهب الصوفي، مثل محيي الدين بن عربي، وشمس التبريزي، وجلال الدين الرومي، والنووي، والغزالي، والقادة صلاح الدين الأيوبي وعمر المختار وعز الدين القسام.
وللمتصوفين بعض الطقوس والقناعات التي يستدل بها البعض على أن الصوفية مصدرٌ لبث الخرافات الدينية. وبدأ مع منتصف القرن الماضي هجومٌ ممنهجٌ عليها من المذهب الإسلامي السلفي، الذي يعتبر الصوفية بدعةً دخيلةً على الإسلام من شأنها تشويهه وتحريفه.
تُنسب أسماءٌ لامعةٌ في التاريخ الإسلامي للصوفية، ويرفض أتباعها اعتبارها مذهبًا، أما المذهب السلفي فيعتبرها بدعةً وتحريفًا
وترى فئة من الناس أن أصل التصوف هو حالةٌ روحانيةٌ ميتافيزيقيةٌ، ليست مقتصرةً على دينٍ بذاته وإن اختلف تعريفها من دينٍ لآخر. فالصوفية الإسلامية هي ذاتها الرهبنة البوذية، والكهانة المسيحية، والشعوذة الهندية. بينما يرفض الصوفية المسلمون هذا التعريف ويقولون إنه لا يوجد إلا التصوف الإسلامي.
اقرأ/ي أيضًا: رحلة شتوية في تراث فلسطين
وفي موازاة الجدل الذي يتصف به الحديث المتصل بالصوفية، تبقى مذهبًا له حضوره المتذبذب تراجعًا وتقدمًا في مختلف بقاع العالم.
طقوس خاصة
وللصوفيين المسلمين طقوسهم الخاصة واللافتة في التواصل مع من يتصورنه على طريقتهم بأنه الله، خالق الكون ونبيه محمد والأولياء الصالحين. وتترتب طقوس تواصلهم على تصوراتهم الخاصة عن الله والنبي والصالحين، فهم يرون الله حبًا وعشقًا وهيامًا خالصًا، لذا ينقطعون إلى عبادته ويسبغون الحب والمدح على النبي والسلف الصالح، زاهدين "بزخرف" الحياة الدنيا. يكثرون من الخلوة والابتهال والذكر وقرع الطبول على وقع الأناشيد الإسلامية الموزونة والمدائح النبوية الملحّنة المغنّاة.
الشيخ علي المفلح عباهرة، من بلدة اليامون، من أعلام الصوفية الأحياء في البلدة، بعد أن انتهت ليلة دق العدة في بيت عائلة الفتى جبر، اصطحبنا معه في رحلةٍ تعريفيةٍ بالصوفية وتقاليدها ومقاماتها في البلدة.
أرانا عباهرة مقامين في اليامون، وذكر أن أحدهما مقامٌ مشيدٌ لقبر النبي يامين شقيق النبي يوسف، وثانيهما مقام للشيخ مبارك أحد الأولياء الصالحين والعلماء المعتبرين في الصوفية.
ومن طقوس الصوفية الثابتة في اليامون حتى اليوم، أنهم يحيون ليلة الجمعة من كل أسبوع داخل مقام قبر النبي يامين المشيّد وسط مقبرة قديمة، وليلة كل إثنين في مقام قبر الشيخ مبارك.
يتوجه الصوفيون إلى مقام القبر بعد صلاة العشاء، يشعلون البخور وينشدون مدائح النبي ثم الأولياء الصالحين وينهون السهرة بدق العدة. ودق العدة هو عزفٌ خاصٌ وصاخبٌ جدًا على أدواتٍ موسيقيةٍ تسمى العدة وفق الصوفية، أشهرها النوبة والبازة والصنوج أو الكاسات، كما أوضح لنا الشيخ عباهرة.
والصوفية في فلسطين تحديدًا، تفقد حضورها وتأثيرها تدريجيًا في بعض المناطق، بينما تحافظ على وجودها وتعززه في مناطق أخرى. أما بقياسٍ عام فإن الصوفية في فلسطين آخذة بالتراجع والانحسار.
يرى أستاذ التاريخ محمد أبو الرب، أن السبب في تراجع الصوفية وتخلي بعض العائلات الفلسطينية عن تقاليدها، مثل عائلات أبو الرب والصمادية وغيرها، يعود إلى تطور الناس "وتركهم لبساطة العيش وابتعادهم عن الدين وجفاف قلوبهم، فالصوفية ترقق القلوب وتطوعها"، وفق قوله.
وبين أبو الرب، أن الشباب اليوم يخجلون من حمل الأعلام ودق العدة مثل زمان "لأنهم شغوفون بلقب متحضرين"، مضيفًا، "لقد مات من يدقون العدة وجيل اليوم يخجل من تعلم الدق لأنه يعتبر هذه الطقوس تخلفًا".
وتابع، "لقد أسهمت المذاهب الأخرى مثل السلفية في تراجع الصوفية، لأن هذه المذاهب تُغرق بمهاجمة الصوفية والاحتجاج عليها بالعقل والمنطق".
أولياء وكرامات
وفي حديث الشيخ عباهرة، عن بعض تقاليدهم ومعتقداتهم ومعاني مصطلحاتهم التي ما زالت في اليامون حتى اليوم يتوارثها الصغار عن الكبار، ذكر لنا بعض الأمثلة على الكرامات، منها أن الشيخ محمد لويسي "أحد الرجال الصالحين" تنبأ بأن اليهود لن يبنوا المستوطنات في اليامون، وصدقت نبوءته، "لذا يعتبر الشيخ لويسي وليًا؛ فالله أعطاه هذه القدرة التنبؤية".
وأكد الشيخ عباهرة على قصة تشيع عن أحد الرجال المعتبرين في الصوفية، وهو الشيخ أحمد الزُّهرة أبو الرب من بلدة جلبون شرق جنين، وروى أنه "كان أهل جلبون يسخرون من الشيخ أحمد الزهرة في صغره ويعتبرونه معتوهًا، حتى حدث في صغره أن دلّى رجليه في النار فظن الناس بأنه احترق حتى هرعوا لانتشاله، وعندما أبعدوه عن النار لاحظوا أنه لم يصب بحروق وحتى شعر ساقيه لم يحترق، منذ ذلك الحين ظهرت ولاية الشيخ أحمد الزُّهرة واعتبره الناس مَعطيًا من الله، وباتوا يتقربون منه حتى اليوم بعد مماته".
يعتقد الصوفيون بالأولياء الصالحين وكراماتهم، لكنهم يرفضون اعتبار الكرامات مثل معجزات الأنبياء
ويصدق أستاذ التاريخ محمد أبو الرب وخريج تكنولوجيا المعلومات علاء أبو الرب وغيرهم المئات من أهالي قباطية والمناطق التابعة لجنين على تفاوت مستوياتهم التعليمية والاجتماعية، قصةً شائعة عن أصل عائلة أبو الرب، تقول إن رجلًا صالحًا قدم إلى فلسطين من العراق فرفع قدر رُبّ خَروب يغلي عن النار وشرب منه مباشرة بدون أن يصاب بأي أذى، فتأكد الجميع بأنه من أولياء الله، ومن هذه الواقعة جاءت تسمية عائلة أبو الرُّب.
ويقول عباهرة، "ولي الله هو رجلٌ صالحٌ يعطيه الله كرامةً". وخلال حديثه وغيره من المتصوفين والمصدقين لأفكار الصوفية، تبين لنا أن كلمة كرامات هي الرديف المطابق لكلمة معجزات، مع أن الصوفيين رفضوا ذلك، لأنهم يؤمنون بأن زمن المعجزات والأنبياء انتهى مع وفاة النبي محمد.
تختلف "الكرامة" "والمعجزة" في اللفظ، ولا يعترف الصوفيون بأن الكرامة هي ذاتها المعجزة؛ تفاديًا لمخالفة أهم عقائد الإسلام بادعاء إعجاز بعد نبيه محمد. في حين تشترك اللفظتان في أنهما يشيران إلى وقوع حدث خارق للطبيعة!
وفي الصوفية يتوافد المشايخ الصغار إلى الولي، يقبّلون يده ويأخذون مشورته ويستأنسون برأيه، "وهذا احترامٌ للرجل الصالح لا يمكن أن نسميه تقديسًا أو عبادةً"، قال الشيخ عباهرة في رده على الذين يتهمون الصوفية بأنها شركٌ وعبادةٌ وتقديسٌ لأشخاص من دون الله.
هل مازالت حاضرة؟
وأفاد الشيخ عباهرة، بأن الصوفيين في اليامون يجتمعون ويدقون العدّة في مناسباتٍ مختلفة، إضافةً إلى اجتماعهم كل ليلة اثنين وجمعة في مقامي قبري النبي يامين والشيخ مبارك، يدقون العدة عندما يُدعَون لاحتفالات الطُّهور والزواج، ويدقونها في بعض الجنائز التي يريد أصحابها أن تدقّ العدة في جنائزهم، وفي ذكرى مولد النبي محمد، وعندما يتأخر هطول المطر يصعدون أعلى قمة في اليامون ويدقون العدة منها طالبين الإغاثة بالمطر من الله. ويدقونها أيضًا في البيوت التي يطلب أصحابها الدقّ لطرد النحس والشياطين من بيوتهم.
وأكد الشيخ عباهرة، أنهم لا يتقاضون أجورًا لقاء إحيائهم احتفالات الزواج والطهور، وإنما ينتظرون الأجر والثواب من الله.
ومن الملاحظ في بلدة اليامون، أنها من المناطق القليلة في فلسطين التي تحافظ الصوفية على شيوعها فيها، فالذي يخالط أهل البلدة يرى أن أعدادًا غير قليلةٍ من العجائز والشبان والأطفال، يشتركون بإتقان دق العدة، ويصدقون القصص التي يشيعها الصوفيون في البلدة.
زيد حسني أبو الهيجاء (16 عامًا)، مثل الكثير من أبناء سنه، يقول إنه تعلم دق العدّة منذ كان في الصف الثاني الأساسي. والسبب في تعلمه الدقّ "كنت أضل أشوف المشايخ يدقوا العدة أجا عبالي وتعلمتها"، كما قال.
يُدعى الصوفيون لإحياء مناسباتٍ كثيرةٍ منها الزواج والطهور وطلب المطر، ويرفضون تقاضي الأجر عن بعضها
ومن المعتقدات الصوفية التي تجد من يصدقها حتى اليوم، وفق الشيخ عباهرة، أن رائحة البخور تطرد الشياطين.
وكتب الكثيرون في أصل الصوفية وطقوسها وتقاليدها. فيرى أستاذ التاريخ محمد أبو الرب أن دق العدة والبخور ثقافةٌ هنديةٌ في الأساس انتقلت إلى الوطن العربي مع بعض المتصوفين الهنود. فيما يقول مناهضون للصوفية، إنها جاءت من التقاليد واللطميات الشيعية وبدأت في بلاد الشام منذ عصر الدولة الفاطمية.
أما الشيخ العباهرة وثلةٌ من الصوفيين في اليامون فيؤكدون أن أصل الصوفية هم مجموعةٌ من الفقراء البسطاء المساكين في عهد النبي محمد، أحبهم النبي وأسماهم أهل الصفوة لصفاء قلوبهم.
ويعتقد قائلٌ أن دق الطبول والأدوات الموسيقية الصاخبة هذه، يتسرب إلى عصرنا من عصر حروب القبائل العربية الأولى، فصار قرع الطبول مستخدمًا في عبادة الله بعد أن استخدمه العرب قديمًا لترهيب العدو وإعلامه بأن الخصم في أتم الجهوزية للهجوم والقتال.
اقرأ/ي أيضًا:
في غزة.. أن تُصاب بمرضٍ نفسي فإنها لعنة