تعيش الصحافة الفلسطينية اليوم أزمة مركبة. فالتضييق على الصحفيين الفلسطينيين مستمر، سواء كانوا يعملون في منابر محلية أو مؤسسات دولية. نُمنع من استخدام لغتنا، ونُعاقب بمجرد استخدام أسماء أو دلالات لها صلة بما نعيشه. نخضع لنمط من المراقبة المعقدة، الذي تنخرط فيه الخوارزميات وسياسات التوظيف والتحرير في المؤسسات الدولية، جنبًا إلى جنب مع المعايير المزدوجة والعنصرية. هذا كله معروف، ولم يعد هناك جديد يحتاج إلى الشرح فيما يتعلق بالجهود المنظمة لإسكات الفلسطينيين وحجب صورتهم. لكن هذا جزء واحد من الأزمة.
في ظل انخراطنا المستمر والضروري من أجل تمثيل المعاناة الفلسطينية للآخرين، ربما فقدنا قدرتنا على التواصل مع الفلسطينيين أنفسهم
هناك جزء آخر يستحق القلق. في الصحافة الفلسطينية المحلية، وفي ظل انخراطنا المستمر والضروري من أجل تمثيل المعاناة الفلسطينية للآخرين، ربما فقدنا قدرتنا على التواصل مع الفلسطينيين أنفسهم. نعيش وضعًا سياسيًا معقدًا، جعل من المحلي يغيب بالكامل من الإعلام الفلسطيني. وأصبح نادرًا أن نقرأ قصة صحفية عن جرائم القتل التي يتزايد عددها بشكل مخيف ومرعب، أو عن الاستغلال الاقتصادي بالوساطة للعمال والخبراء الفلسطينيين من خلال شركات قطاع خاص تعمل بشكل غير مباشر لدى المشغل الإسرائيلي، ويغيب الإعلام عن الفساد والمحسوبية، وهيمنة السلطة على قطاعات بأكملها، وارتفاع الأسعار والفقر، إلخ. وأصبح عندنا مواقع كاملة وصفحات الغالبية العظمى من جمهورها غير فلسطيني.
وإن صح القول بأنه من الطبيعي أن يطغى هذا الجانب من حياة الفلسطينيين على إعلامهم، بعد عقود من العيش تحت بطش الاستعمار الاستيطاني، لكن كل ما ذًكر وغيره ليس بعيدًا عن هذا الواقع الاستعماري، وربما يمثل بصورة أو بأخرى صيغته اليومية التي تنعكس على عيش الفلسطينيين وعافيتهم.
في ظل غياب الصحافة التي تقارب العلاقة الشائكة بين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تطغى المعالجة السطحية للسياسي، على شكل تغطيات خبرية مكررة، وتنشأ مئات الصفحات والمواقع الفلسطينية التي تترجم من اللغة العبرية، حتى يكاد القارئ يظن أن الصحافة الإسرائيلية تكتب لنا ما نكتبه، ونقول ما تريد لنا أن تقوله. وربما من المحبط، لكن الضروري الإشارة، إلى أن جل القصص الصحفية والاستقصائية عن واقع مناطق جيم مثلًا، وعن الاستيطان، والتهجير، يصدر بالإنجليزية والعبرية. وتُختصر حياة الفلسطينيين إلى لحظات متفرقة من التصعيد، أما الأوقات الطويلة والمستمرة بينها، والعنف الاستعماري العميق الذي يتجلى في الحياة اليومية والعادية، فلا يبدو أنه يثير اهتمام كثير من هذه المنابر الصحافية.
قد نفكر لوهلة أن ثقافة "الترافيك" السريع التي تهيمن على الصحافة الفلسطينية، وتحول وسائل الإعلام إلى صفحات سوشال ميديا، ينصف الضحية الفلسطينية وينقل صورتها، وهو افتراض صحيح لكنه غير كامل. فثمة كثير يغيب عن هذه الصورة، حتى نشعر أن الفلسطيني خارج لحظات التصعيد المباشر صار مغيبًا وبعيدًا، رغم أن حياته كلها تصعيد، وكأن الحياة تحت الاستعمار هي فقط الحياة في وقت الاقتحام والقصف.
هذا إعلام فلسطيني، لكنه لا يخاطب الفلسطينيين، يتحدث عنهم ولا يتحدث معهم. إعلام مشغول بتمثيلهم لا الوصول لهم
هذا إعلام فلسطيني، لكنه لا يخاطب الفلسطينيين، يتحدث عنهم ولا يتحدث معهم. إعلام مشغول بتمثيلهم لا الوصول لهم. وهذا وضع يتفاقم مع الوقت في زمن السوشال ميديا، إلى درجة تتعذر معها مصادفة قصة صحفية يحكي فيها فلسطينيون، ولا يُحكى فقط فيها عنهم. وما بين ذلك كله، يسود نوع آخر من الصحافة، هو صحافة المقولة. فإضافة إلى الصحافة الرسمية للسلطة الفلسطينية التي تعيش في فضاءاتها الموازية والمنفصلة عن الواقع، ثمة إعلام معارض للسلطة، يكتفي بالمقولة، ولا يتكلف عناء البحث في ما بعدها. إعلام يحول الواضح والجلي إلى بيان صحفي، لكنه لا يشغل نفسه بالنبش فيما هو غير واضح، والاستقصاء فيما هو أبعد وأعقد.