دأب كثير من الفلسطينيين من خلال أحاديثهم ونقاشاتهم السياسية، أو من خلال القصص التي تناقلتها أجيالهم كجزء من الثقافة الشعبية حول النكبة؛ دأبوا على وصف دور العرب في نكبتهم، والحديث يدور هنا بشكل أساسي عن الأنظمة لا الشعوب، من خلال استجلاب صورة يوسف الصديق الذي بيع بثمن بخس بعد أن ألقاه إخوته في بئر النكران، كما هو الحال في قصيدة محمود درويش المعروفة، أو لربما صورة "المسيح" الذي خانه يهوذا الإسخريوطي أحد أقرب المقربين إليه و"أسلمه" للرومان واليهود.
على أجيال الفلسطينيين اليوم أن تضع النكبة وفترة الاحتلال البريطاني التي سبقتها موضع الدراسة الناقدة
وإن كان من الممكن -تجاوزًا- hعتبار هذه الصورة الرومانسية التي لا يظهر فيها الفلسطيني إلا بريئًا طاهرًا مَخونًا من قبل إخوته الأوغاد، جيدةً لقصص ما قبل النوم التي كانت تلجأ إليها جدات المخيم ليُشاغلن بها أحفادهن عن مشاكسة أمهاتهم، وليزرعن في ذاكرتهم بعض إصحاحات سفر الخروج الفلسطيني، فإن الصورة ستكون مضللة أو ناقصة على الأقل إن استُدعيت لدى محاولة فهم الأسباب الفلسطينية الذاتية التي أدّت إلى حتمية النكبة، ومثل هذا يُقال مهما بدا عصيًا على جموع الفلسطينيين الصمود أمام إغراء الركون إلى المظلومية المطلقة التي توفرها صورة يوسف الصديق، مع ما يعنيه ذلك من إراحة للضمير، وربما للعقل أيضًا من التفكر في مسببات النكبة.
اقرأ/ي أيضًا: سايكس-بيكو.. حفل تشييع بعد قرن
على أجيال الفلسطينيين اليوم، وخاصة أننا نعيش زمن الثورات العربية وبداية تشكل وعي جمعي جديد، أن تضع النكبة وفترة الاحتلال البريطاني التي سبقتها موضع الدراسة الناقدة والكاشفة للظروف الفلسطينية التي ساهمت في الوصول إلى الكارثة، متسلحين بإدراك واعٍ بأن إدانة بعض الفلسطينيين بالقيام بأدوار خيانية وكارثية بما يخص النكبة، لا يُخلي مسؤولية كل من ساهم في ضياع فلسطين وتآمر عليها من العرب والعجم، ففي كتب التاريخ متسع كافٍ لجميع الخونة والمتآمرين.
ولعل الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 اكتسبت أهمية خاصة لدورها النوعي في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني ضد الغزو الخارجي، بالإضافة إلى كونها محاولة الفلسطينيين الأخيرة لتدارك الأمور قبل حلول كارثة النكبة، ما جعلها محط اهتمام الكثير من المثقفين الفلسطينيين أمثال غسان كنفاني الذي نشر دراسة سياسية مميزة حولها، فقد قدّمت تلك الثورة بمجرياتها وفشلها في نهاية المطاف أمثلة كثيرة على الأدوار المشبوهة التي ضلع بها فلسطينيون كثر من أصحاب المصالح المتعارضة معها، فقد كانت ثورة عام 36 ثورة ريفية بامتياز، تحمّل معظم تبعاتها أبناء الريف من الفلاحين الفقراء، الذين وجدوا أنفسهم وسط ثورة تُعيد إليهم الاعتبار في ظل سيادة حكم الإقطاعيين وأفندية المدن في ذلك الوقت، الذين كوّنوا -لسوء حظ الشعب الفلسطيني- الجزء الأكبر من "قيادته الوطنية".
هذه القيادة التي لم يخترها الناس وأفرزتها الحظوة العشائرية لدى بعض العائلات المقتدرة ماليًا، كانت دائمًا تجد طريقة ما لمد جسور التفاهم مع كل من حكم أراضي فلسطين، فلم يكن مستغربًا لمن عيّنه العثمانيون في مركز مرموق بأن يتعاون مع الإنجليز عندما أحكموا قبضتهم على فلسطين، ثم يصبح عضوًا في مجلس الأعيان الأردني بعد النكبة!
لم يكن مستغربًا لمن عيّنه العثمانيون في مركز مرموق بأن يتعاون مع الإنجليز عندما أحكموا قبضتهم على فلسطين
وهو بؤسٌ لازم، حتى يومنا هذا، قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية التي لا تجتذب المخلصين إلا فيما ندر، ولا تضم سوى طالبي المخترة والزعامة والامتيازات، ولو كان ذلك على حساب مصلحة باقي أبناء الشعب المسحوق.
اقرأ/ي أيضًا: غزة.. شرعية الدم التي لم تعد تجدي
فليحدّث الفلسطينيون أبناءهم عن عز الدين القسام الذي أشعل ثورة الفلاحين في جبال الكرمل والجليل ونابلس انطلاقًا من حيفا، حيث يذكر لنا التاريخ أنه قبل صعوده إلى الجبال بشهور قليلة، قام بإرسال طلب إلى الزعامة الفلسطينية التقليدية المتمثلة بمفتي القدس وأزلامه من أجل التنسيق لإعلان الثورة في جميع أنحاء البلاد، إلا أن المفتي رفض بحجة أن الظروف لم تكن ناضجة بعد، في حين أنه كان حريصًا على التنسيق مع بريطانيا من أجل الحفاظ على "تهدئة الأمور".
فلتحدثوهم عن استشهاد القسام البطولي، وعن جنازته التي لم يسر فيها إلا الفلاحون الفقراء الذين لمسوا إخلاصه، وعن اتخاذ الزعماء التقليديين موقفًا فاترًا من استشهاده ما لبثوا أن حاولوا تداركه لاحقًا محاولين ركوب موجة ثورته متأخرين، رغم أنهم سعوا حتى اللحظة الأخيرة إلى إخمادها، فقد قام ممثلو بعض الأحزاب الفلسطينية آنذاك بزيارة المندوب السامي البريطاني بعد ستة أيام فقط من استشهاد القسام، مقدمين له مذكرة صفيقة يعبرون فيها عن خشيتهم من "انفلات الأمور" وفقدانهم لنفوذهم على أتباعهم، ما يعني سيادة الآراء المتطرفة غير المسؤولة وتدهور الحالة سريعًا، إذ كان الشغل الشاغل لقيادة الشعب الفلسطيني آنذاك، توظيف ظاهرة القسام لأخذ خطوة إلى الخلف بدلًا من جني ثمرتها لمصلحة تحرر الشعب الفلسطيني! فليحدّث الفلسطينيون أبناءهم عن كل هذا وأكثر كي لا تروَّج عليهم أسطورة إجماع الفلسطينيين على مقاومة الإنجليز والصهاينة قبل النكبة، وكي لا يظنوا أن "التنسيق" مع أعداء الفلسطينيين سواء أكانوا إنجليزًا أو صهاينة، هو بدعة هذا الزمان!
حدّثوهم عن القيادة الفلسطينية التقليدية التي أرغمتها ثورة القسام على تبني شكل الكفاح المسلح، وكيف أنها بعد خذلانها له ظلّت مجلة "فلسطين" الناطقة بلسانها حتى بعد مرور عشرين عامًا على استشهاده، تحاول الإيحاء للفلسطينيين بأن الحركة القسامية كانت جزءًا من النشاطات التي كان يقودها المفتي وأزلامه، وبلغت الصفاقة حد الادعاء بأن هذا الأخير والقسام كانا صديقين مقربين! حدّثوا أبناءكم عن أبناء ثورة 1936 المخلصين الذين استشهدوا في ميادينها من أمثال الشيخ فرحان السعدي وعبد الرحيم الحاج محمد، في ظل محاولة طمس كل ذلك التاريخ الفلسطيني المشرف عن طريق بعض الفلسطينيين -للأسف- الذين يروجون لأسطورة أنهم السبّاقون في مناهضة المشروع الصهيوني، وأنهم أول من أطلق النار في وجه أعداء الشعب الفلسطيني!
في كل منطقة فلسطينية، يتناقل الناس همسًا اسم إقطاعيٍ عُرف بتعامله مع الإنجليز
في كل منطقة فلسطينية، يتناقل الناس همسًا اسم إقطاعيٍ عُرف بتعامله مع الإنجليز، ولربما بالمساهمة في تسريب النسبة القليلة من أراضي الفلسطينيين التي امتلكها الصهاينة قبل النكبة، التي لم تتجاوز الـ9% من مساحة فلسطين رغم السياسة البريطانية ضد الفلاحين لدفعهم للتخلي عن أراضيهم. ولعل تناقل أسماء هؤلاء الإقطاعيين الخونة همسًا حتى اليوم، بدلًا من محاكمتهم تاريخيًا، إنما يدل على حجم الكارثة التي لا يزال يعيشها وطن الفلسطينيين، الذي ساهم في ضياعه صراع المخترة والزعامة بين عائلتين قبل النكبة!
اقرأ/ي أيضًا: اعتذارفلسطيني عاجل إلى الشعب السوري
إذن، هي دعوة للتخلص من عقدة "الخيانة العربية" التي كانت حاضرة بلا شك في مواقف مفصلية كثيرة مثل إنهاء إضراب ثورة 36 بناءً على وعود من "صديقة العرب" بريطانيا، ولكنها لم تكن لتنجح في تحقيق مُراد أعداء الشعب الفلسطيني لو امتلك هذا الشعب قيادة وطنية عصية على البيع والشراء، أو على الأقل بلغ إخلاصها لفلسطين رُبع إخلاص القسام ورفاقه! هي دعوة للتخلص من السيريالية الفلسطينية التي تدفع لاجئين فلسطينيين في مخيمات لبنان الأكثر بؤسًا في الشتات الفلسطيني حول العالم، تدفعهم للخروج للاحتفال بدخول دولة ورقية بدون عضو إلى نادي الأمم المتحدة، رغم ما يعنيه ذلك من تكريس لوجود الكيان الذي قام على قتلهم وتشريدهم من أراضيهم!
ببساطة، هي دعوة لعدم الاكتفاء برواية قصص "ماكو أوامر" التي يتناقلوها الفلسطينيون للتعبير عن الخيانة والخذلان العربيين، حيث تُروى هذه العبارة عن بعض الجنود العراقيين الأشاوس الذين قاتلوا ببسالة حتى اللحظة الأخيرة، وحرّروا مدينة جنين التي يحتضن ترابها أجسادهم إلى اليوم، بعد أن كانت قد سقطت بيد العصابات الصهيونية، وبلغ تقدمهم الساحل قبل أن يعيقه غياب الأوامر من قيادتهم العسكرية، بل ينبغي على الفلسطينيين أن يشرّحوا تاريخهم قبل النكبة، وأن يجرّموا الإقطاعيين والأفندية وأعضاء القيادة التقليدية ممن ساهم دورهم المتأرجح بين التخاذل والتهاون إلى الخيانة والتواطؤ، وأن يتناقلوا قصصًا كثيرة أخرى، من قبيل "ماكو قيادة وطنية مخلصة"، على سبيل المثال!
اقرأ/ي أيضًا: