الصورة ملتقطةٌ في إحدى قاعات فندق الملك داود بالقدس، في أحد صباحات شهر أكتوبر من عام 1940، الصورة يظهر فيها المفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد، واقفًا أمام جمهور، مائلاً قليلاً إلى الأمام، متكئًا على كرسي، خلف المفكر يظهر خدم الفندق ونادلوه، ويظهر جانب من الجمهور وهو يستمع لمحاضرةٍ أدبيةٍ للعملاق المصري الذي لم يكمل الصف السادس الابتدائي، والذي طبقت شهرته الآفاق العربية.
الصورة لم تعد بالنسبة لي صورة زمن قديم بالأبيض والأسود، الصورة صارت صهوة فرسٍ خياليٍ أركبها وأسافر إلى قدس الأربعينيات
الصورة لم تعد بالنسبة لي صورة زمن قديم بالأبيض والأسود، الصورة صارت صهوة فرسٍ خياليٍ أركبها وأسافر إلى قدس الأربعينيات، أجلس على رصيف مقهى بيكادللي، لأشرب القهوة مع الإعلامي والمؤرخ اللبناني نويهض عجاج، ثم أستأذنه لأصعد الطابق الثالث من عمارة المجلس الإسلامي الأعلى، القريبة من المقهى، لأقابل صديقًا هناك، ثم أهبط إلى مقبرة مأمن الله، لأقرأ الفاتحة على شهداء المسلمين وقضاتها وعلمائها، ثم أمشي باتجاه شركة مرسيدس الفلسطينية لأفاوض صاحبها على شراء سيارة بالتقسيط، ثم أعود بعدها الى رام الله، حيث زمن آخر وسياقات أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: 25915
كنت أرغب في معرفةِ عن أي شيءٍ حاضر الضيف المصري الكبير في زيارته تلك إلى القدس، كتبت الصحف الفلسطينية آنذاك أنه ألقى محاضرة أدبية، في ما بعد، ومع توسعي في البحث عبر الشبكة عن موضوع الزيارة، تبين أن العقاد حضر إلى القدس بدعوة من جمعية الشبان المسيحية بالقدس، وأنه لم يكن الوحيد المدعو. كان هناك وفدٌ كبيرٌ يضم عددًا من أدباء مصر على رأسهم الكاتب المصري الساخر عبد القادر المازني، وكان في استقبال الوفد الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى).
غادرت زمن الأربعينيات، وصحوت على صوت حميدان عبيدات وهو يقودني في سيارته، حميدان صديقي ورفيقي في أوجاع الظهر والولع بروايات ماركيز والملل من النساء المقيمات في نفس الفكرة، المهندس من جبل المكبر، صديقي الطيب المصاب (بدسكين) مخيفين في الظهر والرقبة، قال لي على الهاتف: تعال إلى القدس كل خميس ولك عندي جولةٌ هادئةٌ في أحشاء أحياء القدس، ندخل زمن الأربعينيات قبل الكارثة بسنوات، نتحسر ونضرب سقف السيارة بقبضاتنا، ونحن نصيح: كيف حدث ما حدث؟ كيف كيف؟ ونسأل ونسأل، وندوخ من خجل الإجابات، هاي هي الأحياء تنتظرنا، الطالبية والقطمون ومأمن الله، والبقعة الفوقا. فتّح عيونك يا صديقي على مصراعيها، وحاول أن تتماسك، واشرب أمكنة أجدادك وبيوتهم، وغص بها، واشرق، ومت بسببها مختنقًا أو حالما ان أردت.
أخذني حميدان إلى بيت إدوارد سعيد في حي الطالبية، وقفت أمامه وانا أحاول تخيل أدوار الطفل وهو يلعب في الفناء الذي لم يعد فناء، أطل يهوديٌ أمريكي: وصرخ فينا قبل أن يعرف من نحن وماذا نريد، (بالعبرية التي ترجمها لي حميدان على الفور): أوه أنتم مرة أخرى، تغير البيت، تغير كل شيء، تغير الزمن، اذهبوا اذهبوا، وكفوا عن البكاء، وسمعنا صوت بنتٍ خلفه تقول له: لا يا أبي النوافذ لم تتغير، جدي رفض تغييرها ألا تذكر؟.
في إحدى الجولات قادني حميدان (بدسكيه) المرعبين إلى بيت المترجم والإعلامي والاديب اللبناني عجاج نويهض -الذي عاش في القدس خمسة وعشرين عامًا مدافعًا عن قضايا العرب القومية- في البقعة الفوقا، قرب سكة الحديد، والكولونيالية الألمانية، أوقف حميدان سيارته وأشار بيده: هنا عاش لبنانيٌ عظيم، وهنا تذكرت سردًا محزنًا لبيان ابنة نويهض عجاج وهي تتذكر اليوم الأخير لها في القدس، ذكرت فيه أنها مرت في رحيلها المؤلم رفقة عائلتها عن مقهى ( بيكادللي) في حي مأمن الله، وأنها تحسرت على ليالٍ طويلة وسهراتٍ أمضاها والدها في المقهى رفقة أدباء وإعلاميي ومفكري ومناضلي القدس، عادت بي زيارة بيت اللبناني العظيم إلى مربع الحنين والحسرة، قلت لحميدان خذني إلى هناك بسرعة، قادني صديقي الوفي بسيارته التي تضرر سقفها من ضربات قبضات أسئلتنا، وصلنا هناك، جلسنا نشرب القهوة في بيكادللي، مع الشاعر العراقي معروف الرصافي، ثم صعدنا إلى الطابق الثاني في عمارة المجلس الإسلامي الأعلى، لنسأل عن موعد المظاهرة القادمة ضد الهجرة اليهودية، ثم هبطنا نحو مقبرة مأمن الله لنقرأ الفاتحة على شهداء الأمة، ولم نذهب إلى شركة مرسيدس لأن لا مال كافيًا معنا لشراء سيارة، ثم مشينا مسرعين إلى فندق الملك داوود لنستمع لمحاضرة عباس محمود العقاد، وفجأة أيقظني حميدان: زياد آخر باص لرام الله على العشرة، ما تنسى.
اقرأ/ي أيضًا: