هذا ليس نصًّا عاطفيًا، أو على الأقل هذا ما أزعمه، لأول مرة في حياتي أترك للتو الأغاني الثورية العاطفية، على دوار المنارة برام الله وأجيء إلى هذا المكان الصغير لأحاول كتابة العقل واللاعاطفة وأشرب القهوة، وأدخن. علينا أن نفعل شيئًا آخر، قال عقلي لقلبي.
نعيد إنتاج الدموع كل عام، ألم نسأم؟ نغني ونتذكر وُنخرج المفاتيح والكواشين كل عام، ألم نتعب؟
نحن نعيد إنتاج الدموع كل عام، ألم نسأم؟ نحن نغني ونتذكر وُنخرج المفاتيح والكواشين كل عام، ألم نتعب؟ قالت الحياة للتعب. علينا أن نُطوّر من أدوات مقاربة النكبة، قال المنطق للتكرار. ومرة قال لي صديق أحبّه ويحبني: "زياد هلكتنا بقصة حليمة والبحر، عن جد الموضوع صار ممل"، وقال حسين البرغوثي في آخر أيامه: صارت معاناتي مع السرطان مملة جدًا، لكن مالذي بيد حسين ليفعله أمام حقيقة المرض؟ على المرض أن يجدد طريقته، عليه هو أن ينوّع من أسلوب حياته، المشكلة ليست عندي، المشكلة في المرض، ليس ذنبًا ولا هو جريمة أن أظل أشعر بالملل، هكذا أتخيّل حسين العظيم يقول، بالطبع من حق القُرّاء أو المرضى أو الضحايا أن يشعروا بالتعب والسأم، هم أحرار تمامًا في التعبير عن مشاعرهم تجاه ما يقرأون ويحسًون ولكن مهلًا، قفز أمامي قلبي: تخيّلوا معي هذا المشهد، وتخيلوا أنفسكم تشاهدونه مباشرة لحظة بلحظة كفيلم غير أمريكي طويل، زنزانة ضيّقة جدًا محشور فيها مناضل فلسطيني، محكوم عليه بالسجن فيها لتسعين سنة، بتهمة الانتماء لذاته، هذا الكائن الثائر الذي يمثل طموح وألم شعبه، لا يفعل شيئًا غير الطرق على باب الزنزانة والصراخ: أريد حريتي، أريد حريتي، هاتان اللازمتان المتكررتان على مدى سنوات طويلة هو ما نسمعه ونشاهده فقط في الفيلم الطويل، هل نتوقع أن أحدًا منا سوف يسأم؟ أو يصف الفيلم بالممل؟ من الممل هنا؟ الزنزانة بوجودها الثابت المتكرر المتواصل أم هو المناضل بحقّه المقدّس في الصراخ والطرق على الباب؟
هذا ليس نصًّا عاطفيًا، ولكن لا تصدّقوني بسرعة، يجلس قربي شاب مع فتاة تبدو أجنبية، هذا طبيعي ومنطقي، لكنّ شيئًا غريبًا يحدث، إنهما يتحدثان باللغات الثلاث، مرة باللغة العربية ومرة بالعبرية وأحيانًا بالانجليزي، لم أحاول التنصت، لكني سمعت كل شيء، بحكم قرب الطاولات، واستطعت أن أستنتج أن الفتاة والشاب يساريان، وأنهما منهمكان في مهمة جمع تبرعات لإعادة بناء بيت هدمه الاحتلال في قرية قريبة، ربما تكون الفتاة إسرائيلية أو يهودية غير إسرائيلية، أو ربما أجنبية مهتمة بتعلم الثلاث لغات، مالذي يعنيه أن أجلس لأكتب عن نكبة شعبي بعقل كبير هاربًا من الأغاني والعواطف بينما بنت أجنبية غريبة في رام الله، تتحدث بالعبري أحيانًا مع شاب عربي وتجلس قرب حروفي تمامًا؟
لماذا لم نسمع يومًا عبارة أن الاحتلال هو الممل؟ لماذا لم نشعر بالملل من وجود الاحتلال وليس من طريقتنا في مقاربته؟
أميل برأسي نحو الفتاة الغريبة: اسمعي، الحل ليس ببناء بيت مهدوم، سيهدمه الاحتلال مرة أخرى بعد ميلاد شقيق المناضل بسنوات، مع احترامي لشعورك، الحل هو إعادة كل ما سُرق، بما فيها الزمن نفسه، خاصة تلك الليلة التي كانت تسهر فيها ستي مريم مع سيدي خليل فوق سطح بيتنا في بيت نبالا المهجرة، يفعلان شيئًا خاصًا، بينما أبي وأعمامي وعماتي يزعمون النوم.
هذا ليس نصًا عاطفيًا، طيّب، ليكن، لكن لماذا أصر على عدم عاطفيته؟ هل أخجل من عاطفتي؟ لماذا لم نسمع يومًا عبارة أن الاحتلال هو الممل؟ لماذا لم نشعر بالملل من وجود الاحتلال وليس من طريقتنا في مقاربته؟ هذا نصّ عاطفيّ جدًا، الآن صدّقوني، لقد تركت الأغاني لأكتب هذه العاطفة وأغني هذه الأغنية، أيّها الصديق الذي أحبّه ويحبني، ستظل حليمة تزور البحر وتتحدث بنفس الكلمات عن بيت نبالا، سيظل الثائر الكبير يصرخ ويطرق الباب، وسيظل صدى صوت حسين العظيم ماثلًا في الفضاء وهو يعبر عن ملله من المرض.
هذا نصّ عاطفيّ جدًا جدًا، منذ 25915 ليلة وأنا أنام في المخيم، لن أسأم وأنا أغني هذا العدد، أي عقل يتحمل هذه الجريمة؟ أي عقل؟
اقرأ/ي أيضًا: