03-يناير-2019

ممسكةً بقطعٍ من الحصى مختلفة الشكل والحجم، وفي اليد الأخرى تُمسك لاصقًا متينًا ترشه فوق ألواحٍ من الكرتون المقوى، لتبدأ بعدها بصنع المجسم وفق الصورة الحقيقية التي احتفظت بها في مخيلتها عن البناء القديم الذي أرادته.

منذ ثلاث سنوات ولمَّا تنتهي بعدُ، أطلقت الفنانة الفلسطينية ومهندسة الديكور نورا جردانة (36 عامًا) مشروعها بإعادة الحياة لمدينة نابلس، عبر مجسمات حجرية تحاكي ذاك الحال الذي كانت عليه المدينة في ثلاث حقب زمنية هي الكنعانية والرومانية والعثمانية.

نورا جردانة تعيد الحياة لنابلس عبر مجسمات حجرية تحاكي حال المدينة في ثلاث حقب زمنية هي الكنعانية والرومانية والعثمانية

ليس أقل من قصرٍ ليكون مكانًا لأعمال نورا وتصميم مجسماتها، فهناك في قصر آل عبد الهادي بحارة حبس الدم، إحدى حارات البلدة القديمة الستة بمدينة نابلس، تواصل نورا عملها واستقبالها للزائرين في الوقت ذاته، فالمكان يعج يوميًا بالعشرات من السياح العرب والأجانب.

تستعين نورا بكل ما تجمعه من معلومات تاريخية وخرائط

في القصر الذي تحوله بلدية نابلس لمركزٍ ثقافيٍ، تلتقي أحلام نورا وآخرين ممن دعموها وأنجحوا مشروعها، فالفكرة نشأت أساسًا للحفاظ على الموروث التراثي والثقافي لنابلس. فالمدينة التي يعود عمرها لخمسة آلاف عام؛ وبلدتها القديمة إلى ألفي عام، تستحق الحفاظ عليها وترويجها كبلد سياحي قديم لا زال يحافظ على حيويته.

علم ومعرفة

تقول نورا بينما كانت قد فرغت للتو من استقبالها وفدًا سياحيًا، إنها تواصل عملها في صنع المجسمات للسنة الثالثة على التوالي، وأنها أنجزت نابلس الكنعانية والمعروفة بتل بلاطة "شكيم"، وخلال الفترة العثمانية، وهي القائمة حاليًا؛ والمتمثلة بالبلدة القديمة، وتستعد الآن لإنهاء صنع مجسم لنابلس خلال الفترة الرومانية.

المجسم الاول لمدينة نابلس في العهد العثماني
مجسم يظهر نابلس خلال الفترة العثمانية

قبل أن تحمل الحصى وأكواز وقشور الصنوبر والصلصال والمواد الأخرى المستخدمة في صنع المجسمات بين يديها، أعدت نورا نفسها جيدًا وتحصَّنت بمعلوماتٍ تاريخيةٍ حول المدينة لتسقطها واقعًا على أعمالها، لهذا تجد التفاصيل بارزة وبوضوحٍ، فمسجد النصر بقبته الخضراء وتوسطه مركز البلدة القديمة يحاكي مدى الدقة التي تمتعت بها الفنانة جردانة وحرفيتها المطلقة.

استخدمت نورا الحصى في مجسماتها لتقريب الصورة للمشاهد

هي أيضًا جابت على قدميها أحياء نابلس القديمة، لتضع المشاهد في صورةٍ واقعيةٍ لا مبالغة فيها ولا خيال، فعرفت أكثر وأشبعت أعمالها وذاكراتها معلومات لا حصر لها، ساعدها في ذلك عملها كمرشدة سياحية للوافدين للمدينة في المركز الثقافي حيث هي.

لبعض الوقت توقفت نورا لتحدثنا، بدا عليها الانشغال والعجلة، فبانتظارها مهامٌ جسامٌ وعليها تقع مسؤولية إطلاع الزائرين على المجسمات، وعلى تراث نابلس وتاريخها، ولذا فهي تتعامل مع ثلاثة أصناف من الزوار، بعضهم لا يملك أدنى معلومة، وآخرون من الأجانب مطلعين بعض الشيء، "وفئة ثالثة لديها فضول وحب استطلاع لا أكثر" قالت نورا.

حس الفنانة

تحاول نورا إسقاط حسها الفني على أعمالها، مستعينة بخرائط ومعلوماتٍ ورواياتٍ شفويةٍ جمعتها لنقل الصورة على حقيقتها. تقول إنها واجهت شُحًا في المعلومات والخرائط أيضًا خلال الحقبة الرومانية، وما وجدته كان بحاجةٍ كبيرةٍ للبحث والتدقيق، "ولهذا استطعتُ تحديد أهم معالم الفترة الرومانية المتمثلة بالبازليكا (مجمع الدوائر الحكومية) والأسوار". كما وصلت لأعمق من ذلك ببحثها تفاصيل دقيقة والتفريق بمجسماتها بين المباني العامة وبيوت السكن والتفريق أيضًا بين بيوت عامة الناس وطبقة الأغنياء.

في مجسمات نورا ظهرت معالم رئيسية
كما هو مسجد النصر وسط البلدة القديمة
في المجسمات ظهرت تفاصيل ومعالم مختلفة

نورا جردانة تُميز في جسماتها بين المباني العامة وبيوت السكن، وحتى بين بيوت عامة الناس وطبقة الأغنياء

منذ نشأتها قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، عرفت نابلس بفترتها الكنعانية ممثلة بمدينة شكيم، وتعرف حاليًا بتل بلاطة، ثم في المرحلة الرومانية عُرِفَت المدينة باسم فلافيا نيابوليس، وقد أنشأها الرومان في العام 72 ميلادي بموقع البلدة القديمة حاليًا.

شكل نابلس وحالها خلال العهد الكنعاني

مرت على المدينة عدة حقب تاريخية وحضارات مختلفة إلى أن وصلت إلى شكلها الحالي، وحُرِّفت التسمية من فلافيا نيابوليس التي تعني (المدينة الجديدة) إلى نابلس.

هذه المجسمات ليست كل سر نورا وحبها للفن والعمارة. ففي المكان، لوحاتٌ تشكيليةٌ رسمتها للبلدة القديمة وأزقتها الجميلة، ولها وقعها ومكانتها لديها، تنوعت بين لوحاتٍ زيتيةٍ وأخرى على الزجاج، لكن سرها الأكبر -كما أخبرتنا- أنهم يعتزمون إنشاء متحفٍ ضخمٍ يضم تلك المجسمات وأعمالاً أخرى.

حلم المتحف

تريد نورا لهذا المتحف أن يحكي نابلس عبر العصور، ويتم من خلاله تعريف الناس -لا سيما الطلاب- بتاريخ مدينتهم، إضافة لتنفيذ العديد من الأنشطة والألعاب المختصة بالتوعية والتعريف بالتاريخ والتراث النابلسي، ليأخذ فكرة متحفٍ تعليميٍ تراثي.

تسعى نورا جردانة لإنشاء متحف تعليمي تراثي، يحكي تاريخ نابلس عبر العصور، من خلال مجسماتها وأنشطة وألعاب توعوية

لهذا أيضًا تنشغل نورا بتبسيط الفكرة لدى الزائرين من الفلسطينيين وغيرهم وحتى للأطفال، فهي تعد كتيبات تحاكي تلك المجسمات وتحكي أيضًا تاريخ نابلس وموروثها الثقافي، كما تعكف على إنتاج ألعابٍ لذات الغرض، بحيث يستعملها الأطفال في ألعابهم، وفي الوقت ذاته تقدم لهم معلوماتٍ عن المدينة.

كل ذلك هدفه الترويج لموروث المدينة الثقافي والتراثي، كما قال أيمن الشكعة مدير المركز الثقافي التابع لبلدية نابلس، حيث تعمل نورا، مضيفًا أنه يندرج ضمن مشروع التوأمة بين مدينتي نابلس وليل الفرنسية؛ والممتد منذ عشرين عامًا.

ايمن الشكعة
تندرج أعمال نورا ضمن مشروع التوأمة بين نابلس وليل

إضافة لذلك سيتم -عبر المتحف المأمول- توسيع فكرة المجسمات وزيادة أعدادها لتشمل جُلَّ مناحي الحياة بنابلس، بما يتيح الفرصة بشكلٍ أكبر لترويج المدينة ومعالمها، في خطوة تمهيدية لتسجيلها على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، أسوة بمعالم فلسطينية أخرى سبقتها.

وبينما كان يحتاج الزائر لساعاتٍ أو ربما لأيامٍ ليجوب نابلس؛ لا سيما بلدتها القديمة ويتعرف على معالمها التراثية والأثرية، ربما لن يكون ذلك صعبًا بعد هذه المجسمات التي أبدعتها نورا واكتملت فيها كل مقاييس الجمال والعلم معًا، والقادم كما تعد الفنانة سيكون أجمل.


اقرأ/ي أيضًا: 

"باب الساحة" شاهد على حكايات نابلس

نابلس.. هبة العيون

نابلس.. مآذن تحكي تاريخًا