05-أغسطس-2017

لم يعُد مستغربًا الاستماع إلى ألحانٍ موسيقية منتظمة غير متلفزة أو مُذاعة، وهي تصدر من أسطح أحد المنازل أو داخلها أو حتى في "شاليه" خاص في غزة، في مجتمعٍ يوصف بأنه "محافظ"، آلمتْه ظروف الحرب والحصار لسنوات ولم تترك للفن مساحة فيه.

فمع حلول الصيف وموسم العطلات، يجتهدُ شبان من عائلات ميسورة من "عشاق التغيير" بإضفاء لمساتٍ مغايرة لسهراتهم الشبابية، من أجل الاستمتاع بجلسات طربية هادئة تُنظمها فرقٌ موسيقية صغيرة مكونة من 3-4 عناصر.

جلسات طربية تُنظمها فرق موسيقية صغيرة في قطاع غزة، تعتمد على الكمنجة والناي والطبل والعود، وتجد إقبالاً لافتًا من الشباب

هذه الجلسات، عادةً ما تُشعلها أوتار الكمنجة والناي والطبل والعود، مصحوبةً بصوتٍ غنائي رقيق، بخلاف حفلات الأفراح المُقامة في الشوارع والميادين العامة التي تتسم بشدة ضجيجها وأغانيها الشعبية وكلفتها المادية التي تصل إلى 2500 دولار لحفلات "العوّيدة" التي تتضمن مُطربًا وستيريو ومسرحًا متكاملاً.

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | نانا تكسر ذكورية عزف الإيقاع في غزة

ويرى هواة تلك الجلسات أنها كفيلة "نسبيًا" بإزالة الشعور بالملل والضيق ورتابة الحياة اليومية المغمسة بأخبار تفاصيل الحصار الطويل والتهديدات الإسرائيلية ضد غزة.

فرق صغيرة تحيي سهرات طربية وتجد إقبالا شبابيا في غزة

فسطح منزل مجيد أبو كويك (24 عامًا) في بلدة جباليا شمال القطاع عادةً ما يكون مضاءً بمصابيح صغيرة ملونة، وهي إشارة –كما يقول- لبدء حفلٍ طربي صغير سيقام الليلة في العليّة بحضور نحو 30 صديقًا من رفاقه الذين يقتسمون تكلفة أجر مُحيي الحفل بحدود 140 دولارًا لليلة.

ورغم صغر سن رفاق أبو كويك، الذين قد يميلون للذوق الشعبي في الأغاني والألحان؛ إلا أنهم يعتبرون أنغام هذه الجلسات "أكثر رُقيّا وعذوبةً وتلامسًا لمشاعرهم التواقة للموسيقى والكلمات الرقيقة الهادئة".

عازف الكمنجة كمال دويك من فرقة "ليالي الطرب" يعتقد أن الجيل الجديد أحدث "انقلابًا" في عالم الجلسات الطربية، من خلال الطلب الملحوظ عليها، ونوعية الأغاني والألحان التي يطلبونها.

"بالتأكيد! إنهم يحبون أغاني وردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وميادة الحناوي وفايزة أحمد.. يبدو أن هذا الجيل الشاب يُنبّشُ في الزمن الجميل عن بعض الجمال الغائب". يقول دويك (53 عامًا) لـ"ألترا فلسطين"، وهو الذي تُحيي فرقته 10-15 جلسةً شهريًا.

ثلاثة حروب عايشها الجيل الشاب في غزة جعلته بحاجة للموسيقى

ويضيف، "هذا الجيل العشريني في غزة لم يرَ أيامًا جميلة. كيف سيرونها وقد عايشوا ثلاثة حروب لم يعشها جنرالات في دول أخرى؟ نحن نتحدث عن جيل ليس سويًا من الناحية النفسية والعاطفية، وهو بحاجة لإعادة تأهيل ولو بالموسيقى، لذلك فهم لا يُلامون على حبهم لهذه الجلسات".

وعن حفلات الشوارع والميادين، يرى رفيق دويك، عازف الكمنجة رمضان البلعاوي (40 عامًا) أن كلمات وأجواء تلك الحفلات مُجرد "شعوذات فارغة المضمون وإزعاجًا لا يلامس روح مستمعيها، وذلك لأن النوتات الموسيقية لتلك الأغاني مكررة ولا تُعيد سوى جُملة أو اثنتين".

الجيل الجديد ينفر إلى الفن الأصيل هاربًا من الموسيقى الصاخبة والكلمات السخيفة

كذلك الأمر لعازف الناي إسماعيل الحرازين من فرقة "ميماس"، الذي يؤمن أن الجيل الجديد في غزة لم يعد يشاهد أغاني الكليبات المتلفزة أصلاً لشبه انعدام التيار الكهربائي، "عدا عن جنون الذوق العام لتلك الأغاني الخالية من المضمون المصحوبة بالموسيقى الصاخبة". ويقول: "ميل الشبان لأغاني الزمن القديم يُعطي مؤشرًا على هبوط الموسيقى الصاخبة والكلمات السخيفة".

لا تتوفر في غزة متاجر لبيع الأدوات الموسيقية، باستثناء متجر واحد يقدم خدمة البيع والشراء والاستبدال حسب الطلب

وعادةً ما تحمل أغاني الجلسات الطربية كلمات تتناول الحياة العامة ومشاقها، ومفاهيم الصداقة، والحب العذري، وشين الغدر والخيانة والكذب والنفاق، كالأغنية القائلة:

أيام ياما شُفنا الويل .. والنهار بقى زي الليل

لما خلاص فاض بينّا الكيل والقلب بالأحزان مليان

طعم اللقمة خلاص بقى مُر، والأيام مش راضية تمُر

قلِ الخير وكتر الشر والبشر بقى كله حيتان

*****

يا عم سلامة راحت فين السلامة والحب والحنان

وليه الغلابة وكلاها الديابة والقسوة في كل مكان

لا سكة عارفين نمشيها ولا دمعة عارفين نداريها

ولا تتوفر في غزة متاجر لبيع الأدوات الموسيقية، باستثناء متجر واحد يُديره الفنان أكرم حسن، وهو يقدم خدمة البيع والشراء والاستبدال والتدريب على استخدام تلك الآلات، ويقول، إن استيراد تلك الأدوات يتم عبر الطلب بالقطعة الواحدة، وليس كأي سلعةٍ تجارية يمكن توريدها بالجملة، بسبب القيود الإسرائيلية على المعابر.

يوجد في غزة متجر واحد فقط لآلات الموسيقى
في غزة آلات الموسيقى تُطلب بالقطعة وليس بالجملة كبقية السلع

التقيت لؤي عيسى (24 عامًا) في جلسةِ طربية أواخر حزيران/يونيو الماضي، قال إنه وأقرانه لا يعرفون معنى السفر أو السينما أو المسرح أو أي أنواع أخرى من الترفيه، سوى أخبار المآسي، وإن فكر أحدهم بالترفيه البسيط فلن يزيد عن تناول الفستق على الشاطئ بصحبة صديق، أو تدخين النارجيلة مع لعبة طرنيب، لذلك: "فأهلاً وسهلاً بالموسيقى".


اقرأ/ي أيضًا: 

صور | جدران غزة.. حُب وغضب وأشياء أخرى

شقائق النعمان.. أسطورة الدم والحب

مشهد نابلس الثقافي.. تاريخ من ذهب وحاضر يُرثى له