على وقع أصوات مزعجة لمُسيّرات إسرائيلية يسميها أهل غزة "الزنانة" ولا تفارق سماء القطاع، تشيع أجواء من الرعب والإرهاب، وبيدين خاويتين إلا من أدوات بسيطة، يأبى مدرب الملاكمة الفلسطيني أسامة أيوب الابتعاد عن رياضته المفضلة، ويجمع الأطفال ذكورًا وإناثًا من النازحين، ويدربهم بالمجان على فنون هذه اللعبة.
لا يمتلك أسامة (39 عامًا) من أدوات الملاكمة شيئًا، وقد تركها خلفه في مدينة غزة، التي نزح عنها مجبرًا أسوة بمئات آلاف الفلسطينيين هربًا من حمم الصواريخ والقذائف الإسرائيلية عقب اندلاع العدوان.
يقول أسامة لـ"الترا فلسطين" إن "الحلبة والأدوات هي وسائل مهمة ومساعدة لتعلم فنون رياضة الملاكمة بشكل سليم، لكن في ظل الأوضاع الاستثنائية غير العادية التي نعيشها في قطاع غزة فإن الإرادة هي الأهم، ولا بُدّ لإرادة الحياة أن تنتصر على جرائم القتل والتدمير".
ملاكمة على هامش النزوح
قبل اندلاع العدوان الإسرائيلي، كان "الكابتن أسامة"، كما يحلو لطلابه أن ينعتوه، يدرب في جمعية الشبان المسيحية، ومن ثم أسس ناديه الخاص، وكان يدرب في صالة ألعاب نادي المشتل الرياضي في مدينة غزة، ويقول: "كانت رياضة الملاكمة تشهد نموًا ملحوظًا وإقبالًا كبيرًا من الجنسين حتى وصلت أعداد المتدربين في النادي أكثر من 150 طالب وطالبة".
واندلعت الحرب واضطر أسامة للنزوح بأسرته، المكونة من 5 أفراد، إلى مدينة رفح في جنوب قطاع غزة، ولم يشأ أن يبقى "عاجزًا"، وبادر بنفسه وذهب لمراكز الإيواء في المدارس، وعرض عليها تدريب أطفال النازحين، ومحبي رياضة الملاكمة مجانًا، وقد لاقت مبادرته استحسانًا وإقبالاً كبيرًا، حتى ذاع صيته وبات مراكز الإيواء وإدارات مخيمات النازحين تطلبه من أجل التدريب.
وطوال فترة نزوحه في رفح نفذ أسامة عددًا كبيرًا من مبادرات التدريب المجانية في المدراس وخيام النازحين، وبقي كذلك يتنقل من مركز إلى آخر ومن مخيم إلى مخيم حتى اضطر على وقع العملية العسكرية الإسرائيلية البرية على المدينة في 7 أيّار/مايو الماضي من النزوح إلى منطقة مواصي خانيونس، أسوة بزهاء مليون و400 ألف نسمة من السكان والنازحين في المدينة شردتهم الحرب وأجبرتهم على النزوح مرة أخرى.
ونزح أسامة ولم تغادره العزيمة والإرادة وبمجرد استقراره في منطقة المواصي، استأنف مبادرته، وحصل على موافقة صاحب الأرض التي نصب فيها خيمته من أجل تخصيص مساحة صغيرة يقدرها بمساحة خيمة من أجل جمع الأطفال والراغبين في تعلم فنون الملاكمة.
ويخصص أسامة يومًا للذكور ويومًا للإناث، ويقول إن 30 بنتًا و40 ولدًا من الأطفال والفتية، سواء من سكان المخيم الذي يقيم به أو من المخيمات الأخرى، يحرصون على الالتزام بمواعيد التدريب، وكلّهم عزيمة وقوة وإرادة، والأهم من كل ذلك برأي أسامة: "إرادة الحياة لدى هذا الجيل ورغم ما يتعرضون له من جرائم قتل وجرح وتدمير وتشريد إلا أنهم يتمسكون بالأمل وتطوير أنفسهم".
إقبال وتفاعل
الفتاة هلا أيوب (18 عامًا)، واحدة من أقدم الفتيات اللواتي التحقن بنادي الملاكمة لدى المدرب أسامة، وكانت بعمر الثالثة عشرة، وتقول لـ"الترا فلسطين": "نريد إن نقهر الظروف ونتحرر من أجواء الحرب، ونمارس الرياضة التي نحبها للتفريغ عن أنفسنا من الضغوط الهائلة التي نواجهها منذ 8 شهور".
نزحت هلا مع أسرتها من مدينة غزة إلى مدينة رفح، وتواصلت مع "الكابتن أسامة"، الذي تواصل بدوره مع باقي فتيات النادي، وأبدين رغبة في معاودة التدريب من جديد، وعقب النزوح من رفح تقول هلا: "حرصنا على النزوح في مكان واحد وقريب من المدرب كي نواصل التدريب، وقد انضمت إلينا فتيات جدد أبدين رغبة في تعلم فنون الملاكمة".
ورغم افتقارها لجميع أدوات التدريب التي اعتادت عليها في النادي قبل اندلاع الحرب، إلا أن هلا تبدي عزيمة كبيرة على مواصلة اللعب والتدريب، وتشير بيدها إلى مساحة فارغة من الأرض، وتقول "هذه هي الحلبة"، وقالت: "الكابتن يحاول بالأدوات البسيطة من أواني الطبخ والفراش والأغطية أن يوظفها كبديل عن أدوات التدريب المفقودة بسبب الحرب والحصار".
وعلى عكس هلا، فإن هذه هي التجربة الأولى للفتاة ملك شعث (13 عامًا)، مع رياضة الملاكمة، وقد سمعت بالتدريب من خلال صديقاتها، وتقول لـ"الترا فلسطين": "عندما شاركت بأول حصة تدريبة تشجعت وأحببت اللعبة، وأشعر أنني معها سأصبح أقوى وشخصيتي أفضل، وسأواصل التدريب واللعب الآن وبعد توقف الحرب".
ويختصر الطفل فادي عايش (9 أعوام) النازح مع أسرته من حي الشيخ رضوان في مدينة غزة، هدفه من الالتحاق بالتدريب على الملاكمة برغبته في تقوية جسده، وتعلم مهارات قتالية تساعده في الدفاع عن نفسه.
ويتفق معه الطفل محمد نهاد (11 عامًا) النازح مع أسرته من حي الشيخ رضوان في مدينة غزة إلى رفح ومنها إلى مواصي خانيونس، ويقول لـ"الترا فلسطين": "إن اللعبة أعجبته عندما شاهد الأطفال يتدربون مع الكابتن أسامة، والتحق معهم بالتدريب ويريد تقوية جسده وشخصيته".
خسائر حرب
ويخصص الكابتن أٍسامة 3 أيام للذكور ومثلها للفتيات بمعدل ساعة تدريبية في كل مرة، ويحرص على توظيف البيئة المحيطة والأدوات البسيطة المتوفرة لديه في الخيمة من أجل مواصلة التدريب.
وخسر أسامة كل معداته في النادي الذي تعرض للتدمير الكلي، فيما خسر معدات أخرى في منزله الذي تعرض لتدمير جزئي، غير أنه يبدي عزيمة كبيرة على المضي قدمًا ومواصلة التدريب، ويقول: "ربما يخرج من بين هؤلاء الفتية والفتيات أبطال يمثلون فلسطين في المحافل الدولية".
وسبق لأسامة أن شارك في بطولات عربية في مصر ولبنان والجزائر، ويحلم أن تنتهي الحرب ويتمكّن من تكوين منتخب وطني فلسطيني للملاكمة يشارك به في بطولات ومحافل رياضية إقليمية ودولية.