على مدخل مغارة النعسان في مشارف الغور، وبينما كان الأستاذ يوسف عثمان مُنهمكًا بإعداد القهوة على نار هادئة قبل بدء جولة الزّحف إلى باطن الأرض في الكهف الذي يمتد لعمق 200 متر، كان الصديقان أنور وحبيب دوابشة يَسردان لي جُملة من الحكايات الطريفة عن "عفاريت مغارة النعسان".
مغارة النعسان تقع في خربة الدالية التي تُشرف على الأغوار الفلسطينية، على بعد 12 كم غرب وادي الأردن، على ارتفاع 1500 قدم، وتحتاج للوصول إليها من قرية فصايل العربية نحو ساعة ونصف مشيًا على الأقدام. وهي واحدة من عدة كهوف تقوم على جانبي الواد الذي يحمل اسم الخربة "واد الدالية"، ومن بين هذه الكهوف المُهمة: مغارة النعسان ومغارة أبو سنجة. وهي كهوف عملاقة يتسع الواحد منها لقبيلة كاملة.
مغارة النعسان تقع في خربة الدالية التي تُشرف على الأغوار الفلسطينية، وشكّلت تاريخيًا ملجأ للفارين
وكانت دائرة الآثار في العام 1963 قد باشرت باجراء حفريات فيها بقيادة البرفسور الأمريكي بول لاب، بعد عثور البدو على مخطوطات ولفافات نادرة تعود للعام 375 قبل الميلاد، مكتوبة باللغة الآرامية، وكانت قد بيعت لتاجر آثار سرياني من بيت لحم، وتسرب خبرها إلى أن وصل للمتحف الفلسطيني في القدس.
انطلقنا إلى هذا الكهف بدافع الاستكشاف وبحثًا عن المُغامرة، وقررنا أن ندخل إلى آخر نقطة في الكهف الذي شكّل تاريخيًا ملجأ للفارين، كما تبين من خلال نصوص المخطوطات الأثرية وكما دلت الحفريات الأثرية. ولذا كان علينا أن نستعد جيدًا لهذه المغامرة وأن نأخذ ما يلزم من معداتٍ وإنارةٍ وحبالٍ تُرشدنا في متاهات الكهف لطريق الخروج الذي يستحيل أن يتحقق من غير حبال تنصبها من نقطة الدخول وترجع من خلالها، مصحوبًا بإنارة كافية وقلب شجاع.
وكان علينا أن نعرف الكثير من روايات الناس عن هذه المغارة لنكون على دراية بحجم مُغامرتنا. وعلى رأي المثل الشعبي "جن تعرفه ولا إنسي ما تعرفه".
أول حكاية قيلت لنا بأن مغارة النعسان سُميت بذلك لأن رجلاً اسمه أو لقبه النعسان فَقَدَ ذات يوم أحد أغنامه وهو يرعى في تلك المنطقة، فتتبعها حتى دخلت إلى هذا الكهف ثم أبصرت شقًا صغيرًا بطرف الكهف فعبرت به، فأسرع الرجل خلفها، ولا زال هناك حيث انقطع خبره، وفُقِدَ الأمل من عودته، فنُسِبَ الكهف إليه (مغارة النعسان).
وحدثنا قاصٌ يحفظ "خراريف الجن" بأن هناك 72 قبيلة من الجن تسكن المغارة، وهُم حسب الوصف مُسلمون. وكان بعض أفراد هذه القبائل يخروجون بين الفينة والأخرى إلى الواد، ويمنعون أي أذى تتعرض له القبائل من قبل البشر، كما قيل والعهدة على ذمّة الراوي.
حدثنا قاصٌ يحفظ خراريف الجن أن 72 قبيلة من الجن تسكن مغارة النعسان، وفيها اختفى رجلٌ اسمه النعسان فنُسبت له
ومما رُوي عن مشاهدتهم: أن مجموعة من الشباب كانوا في طريقهم للغور عبر واد الدالية، فأدركهم الليل فناموا في هذا الكهف وجعلوا أحدهم حارسًا، وفجأة أبصر نورًا قادمًا إليهم من داخل الكهف فتناوم وأغمض عينيه، فإذا بمجموعة من سكان الأرض (دستور لخاطرهم) يخرجون وبيد كلٍ منهم مصباح، وكانوا قصار الأجساد كأنهم بحجم الأطفال، وأن أحدهم تقدم نحو النائمين وحرك المصباح فوق رؤسهم وتأملهم ثم عادوا أدراجهم.
وفي الليل يكون مكمن شجاعة الجن - كما يقول من يحكون قصصهم - ولذا علينا تجنب البقاء في هذه المنطقة لوقت متأخر، حتى قال أهل قرية دوما في ذلك: "بمشيش بالليل إلا حرامي أو عقرباوي أو بسم الله الرحمن الرحيم". ويقصدون في الثالثة: الجن. ولذا وردت عدة قصص عن الجن وخروجهم ليلاً للسائرين أو الآوين لهذا الكهف.
وقيل أن الشيخ الزهراوي من عقربا أراد يومًا استحضار قبيلة من قبائل الجن الـ72 هذه، لأجل أن يُخرِجَ من خلالهم الذهب، وكان الوقت نهارًا، وكان جالسًا في منقطة تُسمى النقار، فبدأ يقرأ من طلاسمه وما يجيده في فنون استحضار الجن، فتكاثروا حوله، وصاروا يتقافزون بين يديه، فصاح فيهم كي يُشغلهم عن نفسه: "النًتش .. النّتش"، فهجموا على النتش يقتلعونه من الجبل، ومنذ ذلك الحين لم ينبت في هذا الجبل نتشةٌ واحدة، وفق الحكاية.
والأعجب من ذلك حكاية تقول إن هُناك أيامٌ تخرج بها عند ساعات الصباح الأولى من مغر الدالية فتاة حسناء فاتنة الجمال، تجلس على صخرة قبالة الكهف مُتبرجة ومسدلة شعرها للشمس، من أبصرها وحازها من غير الوقوع في فتنها فتحت له أبواب الذهب، ومن وقع في فتنتها اختفى وضاع خبره أو جُن عقله.
وقيل لنا أيضًا أن امرأة كانت تمر من هناك وتسوق خلفها بقرةً وتمضي إلى سهل الدالية غربًا، وفجأة أحسّت بأن شيئًا أخذ البقرة منها، فلما نظرت خلفها لم تجد إلا الحبل الذي كانت تقود به البقرة.
مغارة النعسان مسكونة بالخفافيش، وفي عمقها تسربات للماء تركت بصمتها على الصخور منذ آلاف السنين
في تلك الأثناء هبّ دُخان نار القهوة فانتبهنا لضرورة عدم إغضاب سكان الأرض فلهجت ألسُنُتنا بذكر الله والاستئذان: "دستور يا أهل الأرض إحنا بالعرض". ثُم عَزمنا عليهم ودعوناهم للتفضل على المقسوم "عوايد العرب". فشربنا قهوتنا بسرورٍ ثُم دخلنا الكهف عبر التجويف الصغير الكائن في طرفه الداخلي، وبدأت مُغامرتنا باقتحام السرداب تلو السرداب ونحن بيقين أننا بمأمن وحماية، ذلك أننا استأذنا إخواننا من الجن المسلمين سكان المغارة، تجنبًا لغضبهم إذ لا طاقة لنا على مُجابهة 72 قبيلة مهما كُنّا شجعانًا وأقوياء.
دخلنا بسلام مصحوبين بتراتيل آيات القرآن بدءًا بسورة الجن وانتهاءً بسورة ياسين، وأخريات مباركات من الذكر الحكيم. وكان علينا أن نزحف في باطن الأرض عدة ساعات نمر خلالها عبر السراديب الضيقة التي تقودنا إلى حجرات واسعة تفضي كلٌ منها لعدة سراديب ومتاهات مُتعرجة، الأمر الذي يتطلب انتباهًا وحذرًا ومعدات تُعين على التقدم ثم تُرشدك طريق الخروج.
كان الكهف عظيمًا ومرعبًا ومسكونًا بالخفافيش وبعض الحشرات الصغيرة، وفي عمقه تسربات للماء تركت بصمتها على الصخور منذ آلاف السنين. كما رأينا بعض الانهيارات التي طالت بعض الحجرات العميقة على بُعد ساعين من الزحف تقريبًا، والتي تحتاج لحذرٍ شديد قبل أن تجتازها للداخل، ويبدو لنا من خلال المُشاهدة البصرية أن الأنسان أسهم في تعديل وتحسين أجزاء المغارة العملاقة لتتواءم مع ظروف الحياة في حينه.
لقد لعبت أسطورة الجن وقبائله الـ72 التي تسكن كهوف خربة الدالية دورًا هامًا في حماية كنز أثري
لقد لعبت أسطورة الجن وقبائله الـ72 التي تسكن كهوف خربة الدالية وتحديدًا مغارتي أبو سنجة والنعسان دورًا مهمًا في حماية كنز أثري، اكتُشِفَ لاحقًا بعد أن فتح الكهوف وعبث بها أشخاصٌ لا علم لهم بما خلقته المُخيلة الشعبية من خرافات وقصص عن الجن.
هذا الكنز الأثري، تطرق إليه إبراهيم الفني في كتابه "نابلس في الحضارتين اليونانية والرومانية"، وهو (إبراهيم) أحد الذين عملوا في بعثة الآثار حينه. وقال: "كانت الموجودات التي عُثر عليها في مغارة النعسان تعود للعصر البرونزي المتوسط، أي 2000 ق.م. أما كهف أبو سنجة فاكتُشف فيه عشرات الهياكل العظمية التي تعود للقرن الرابع قبل الميلاد، كما عُثِرَ على هيكل عظمي وقطع فخارية تعود للفترة الرومانية المتقدمة. وتم العثور على عشرات القطع النقدية والأواني الفخارية وبقايا الأطعمة والمجوهرات الشخصية، وأختام وخواتم ذهبية، وأجزاء جديدة من المخطوطات النادرة".
كل هذا الكنز الأثري كان محميًا بأساطير وحكايات حالت دون ضياعه، وهو ما يُبرر للذهنية الشعبية إبداعها في خلق القصص وإنتاجها في مجتمعٍ يخاف المجهول ويحترم القداسة.
اقرأ/ي أيضًا: