فيما مضى كانت لِزَفّة العريس وحمّامه طُقوسٌ مُقدسة، لا اكتمال للفرحة بدونها، ولعل هذه الطقوس مما يُحَمِّسُ الأصدقاء للمشاركة بمراسم العُرس حتى الفعالية الأخيرة.
يوم العُرس يوم شاق بلا شك، إذ يبدأ فجرًا مع ذبح الولائم وطهي الطعام للمعازيم، وما أن يخرج آخر سدرٍ، حتى يتنادى الشباب لحمام العريس وزفته. فينهض الجميع من جديد كأنهم لم يتعبوا من الوقفة لخدمة الضيوف، ويبدأون بأغاني الزفة بحماسٍ شديد كأنهم يتقدمون خلف عريسهم إلى الحرب:
عريسنا زين الشباب .. زين الشباب عريسنا
بارودنـا يقـدح لهـب .. يقـدح لهـب بارودنـا
ارصاصنا لسع العقارب .. جريحنـا مالـوا دوا
والحرب لو دَرَج دَرَج .. الصبر مفتاح الفرج
عريسـنا يا عريسـنا .. شيخ الشباب عريسنا
عريـسـنا واحنا فـداك .. بسيوفنا نذبح من عداك
حماسٌ غنائي يُحفزه واجب "الطَبطبة" على ظهر العريس والتربيت على كتفيه، وهو ما يتحوّل عمليًا إلى الضرب، في مزاح لا يُقبل إلا في مثل هذا اليوم، ولعلها توديعة العهد الأخير لصاحبهم مع العزوبية، وتذكيرًا له بأصدقائه حتى لا ينساهم في أجمل لحظات حياته.
"الله يرحم الحج صالح لحمود يوم عرسه فشخوه وفات ع عروسه دماياه حماياه"
أذكر يوم عُرسي في عقربا، وكان حمامي في بيت جارنا الحاج أبو محمد وصفي أبو هدبة رحمه الله، وما أن دخلت الحمام حتى تنامي إلى سمعي ما يدور خلف الباب، فأدركت أنني وقعت في قبضة الشباب، ولا راحم إلا الله. فاعتصمت بالحمام وأطنبت مُحتميًا بالجار، فبسطت حمايته وفرض السلام لي كي أخرج للزفة.
اقرأ/ي أيضًا: بماذا تغنى أجدادنا أيام البلاد
يومها قال لي أبي رحمه الله: "شو بدُّه يصير لك، هذه طبطبة ع لكتاف، الله يرحم الحج صالح لحمود يوم عُرسه فَشَخوه وفات عَ عروسه دَماياه حَماياه"، أي "دمه حميمه". قلت: "الله يسامحك يا حج: كُل هذا وبتقولي طبطبة عَ لكتاف". ردّ عليّ وكأنه لم يقل شيئًا: "هذه عادات الناس، وكيف يعني عريس من غير قتله!".
هذا الضرب هو دَيْنٌ اجتماعي يُسـتَـدُّ من كُل عريس قبل دخلته، "وكل شي قرضة ودين"، ولذا لا يتأخر أحدٌ عن المُآجرة ومدّ اليد، والقاعدة تقول: "قيم ايدك تا أحط ايدي"، فأنت إما عريسٌ طُبطب على ظهره، أو أعزبٌ سيأتيه الدور، فامدد يدك غير مُستَعتَبْ.
وهذا الضرب للعريس يوم دخلته هو جزء من فعاليات حمام العريس وزفته، وحين يُحاول أحدهم حماية العريس ومنع أصدقائه من ضربه بحجة هيبته ولباسه، يُعاب عليه ذلك بقولهم: "هي جنازه وإلا جوازه" وكأن الفرح لا يكتمل إلا بهذه "القَتلة"، و"الفرح يوم".
ولقد رأيت في طفولتي عريسًا يأكل صَفعاتٍ على وجهه قبل أن يُدخل على النساء، وكان يبتسم مُحاولاً حماية نفسه، وحضرت عُرسًا اقتحم الشباب على العريس حمامه، وبيد كُلٍ منهم ما تيسّر من شباشب ومطارق زيتون، ولَحِقَتْ بهم أنواع المُنظفات والسوائل والبيض والطحين وما يصلح لـ"تلطيش" العريس وبهدلته، فخرج وهم معه سُعداء رغم الضرب المُبرح.
حضرت عُرسًا اقتحم الشباب على العريس حمامه، وبيد كُلٍ منهم ما تيسّر من شباشب ومطارق زيتون
وبلغني أن صديقًا ظل يئن لأكثر من أسبوع بسبب ما طاله من نصيب الطَّبطبة، وعن نفسي بَقِيَتْ قدمي زرقاء أسبوعًا في أكثر من موضع مما نالني من تقريصِ ليلة السهرة. وكل هذا إنما يحدث من باب المُزاح والمحبة وتقليدًا لعادة قديمة قضت أن يرى العريس نجوم الظهر يوم فرحته، والعريس يتقبل كُل ذلك ولسان حاله: "كرمال الورد بشرب العليق".
لكن أيعقل أن كل هذا من باب توديع العريس لعُزوبيته، وتذكيراً له بأصدقائه؟
هناك وجهة نظر في موضوع ضرب العريس وَهَدِّ حَيله قبل أن يُدخل على النساء ليُصمد بجانب عروسه، فهذا الضرب ضرب المحبة، وهو قطعًا غير "ضرب الحبيب زبيب"، وما بقي من تلك العادة إنما تحول لمزاح ومداعبة.
اقرأ/ي أيضًا: هل انهارت الأغنية الشعبية على يد الفنانين الجدد؟
فقديمًا كان الخاطب نادرًا ما يَرى عروسه ويتعرف إليها إلا يوم دُخلتهم، إلا مِنْ نظرة خاطفة عِندَ عين الماء، أو تلصلصٍ على الحَطّابات وهي بينهن. وإن أسعده زمانه فزارها أو التقى بها فحدود معرفته بها محدودة والكلام بينهما مضبوط وبالكاد يعرف وجهها.
وفجأة يُراد لهذا العريس أن يَدخل على النساء وفيهن عروسه المصمودة بانتظاره بأبهى حُللها وأجمل حُليّها، وعطرها فواح و شعرها لوّاح، والنسوة من حولها يتراقصن ويُغنين له كي يكشف عن وجهها:
يا كاشــف وجهـها ريتك تتهنا فيه .. يا وجهـها 18 مـدينـة تقـيّـل فيه
يا كاشــف وجـهـها ومـطّلـع فيه .. يا وجـهـها الـبـدر ســـاكـن فيه
يا كاشف وجهها اسـتحي وغطيه .. تفاح شـامي لو هَبّ الهوا بيرميه
قطعًا حينها سيكون العريس في وضع لا يُحسد عليه، ولذا يسارع الرجال لصون هيبتهم وصورتهم من خلال ضرب (زَلمتهم) قبل هذه اللحظة، فإذا دخل على النساء وأبصر عروسه أول وهلة لم يُخطَف عقله من فتنتها، فيبدو مشدوهًا مصدومًا، مُتصبب العرق مُتوترًا كمن سَرق الضبع عقله. لحظتها سينشغل بالتقاط أنفاسه وتحسين هندامه واستيعاب أنه نجا بأعجوبة من ضربات الشباب ومآجرتهم بالطبطبة على ظهره بأيديهم وعُصيّهم، أو بما على رؤوسهم من عُقلة، فإذا هدأ روعه استوعب الأمر ولم يبدو كالهجين الذي وقع في سلّة تين.
وما أن ينتهي حفل النساء وتخف الحركة في البيت ويبرد جسم العريس، حتى تزاحمه آلام الضربات واللكزات، فيصير إلى همّه الجديد مُنشغلاً عن عروسه التي تنتظره، فاذا أقبل عليها أقبل لينًا هادئًا يُخفي ألمه ووجعه، فينجوا من قولهم عنه "ثور وجاي من الغور".
يُغادر الشباب الزفة في لحظة هروب العريس نحو النساء نافدًا بجلده كما يُقال، وهُم يتوعدون غيره بذات المصير:
ســوق العَصر ما حَضرناه .. باكــر نِجَـدد بَـدالـُه
ويصير فيه بيع وشراء .. ويصعب على من أَجالُه
وهذه القتلة ذات الطابع المازح ليست قاتله ولا مُعطلة ولا ملحقة ضررًا كبيرًا بالعريس إلا في بعض الحالات النادرة جدًا، ذلك أن الضرب يكون بين الجدية والمزاح، و"سيف الأهل من خشب" بمعنى أنه لا يؤذي.
اقرأ/ي أيضًا:
العرس الفلسطيني: ماذا عن كسوة العروس؟