تذوقت هداية في 22 سنة مضت من عمرها أوجهًا من العذاب؛ في رحلة ترميمٍ لما تبقى من جمال جسدها الذي شوّهه حريق بشع، حتى إذا ما وصلت لعمر الزواج احترقت مجددًا بمجتمع صبّ عليها سوطًا من العذاب بمقاييس جمال مختلة ومزيفة حشرت جمال المرأة في جسدها.
هداية الأسطل (24 عامًا) التي تُعاني من آثار ذلك الحريق، تعيش حياة يُميتها من هم على قيد الحياة، تنشد في من حولها بعضًا من إنسانية "ميشيل هوسكن" البريطاني الذي تمسك بحبيبته رغم تشوه 80% من جسدها بحادثة تعرضت لها عام 2011، وأعاد حبها للحياة بارتباطه بها، بعد أن كانت يائسة منها.
ينظر الشخص منهم إلى هداية بأنها "غولة"، وآخر ينصحها بارتداء النقاب "كي لا تتعرض لكلام الناس أو تخيفهم"
ينظر الشخص منهم إلى هداية بأنها "غولة"، وآخر ينصحها بارتداء النقاب "كي لا تتعرض لكلام الناس أو تخيفهم"، أما صنفٌ آخرًا فينظر إليها بعين الشفقة. في حديثها لـ الترا فلسطين، تقول: "تعرضت لحادثة حرق عام 1995 داخل بيتنا بسبب انفجار داخلي سبَّبَ اشتعال النار في معظم أنحاء جسمي، وأصابني بحروق من الدرجة الثالثة والرابعة".
اقرأ/ي أيضًا: سرطان الثدي قد يعني الطلاق في غزة
وتُضيف، "بقيت 3 شهور و12 يومًا في مستشفى الشفاء، وبعدها تم تحويلي لمصر للحصول على جلسات علاج عبارة عن عمليات ليزر تجميل تصليح وزراعة شعر وحواجب. كثيرٌ منها لم ينجح وأخرى نجحت بعدما سببت ألمًا كبيرًا لي وإحباط".
تحفظ هداية ابنة مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، تواريخ أكثر من 200 عملية تجميل وزراعة جلد وشعر أجرتها خلال الـ22 سنة، فـ"الألم والعذاب الذي تذوقته فيها لم يكن بالأقل من ألم الحرق نفسه" قالت لنا وهي تروي معاناتها التي أوصلتها لمرحلة اليأس في كثير من المحطات.
وتُتابع، "سخر الله لي أشخاصًا ساعدوني في الخروج لإجراء عمليات، مقابل آخرين منهم أطباء حرموني من التحويلات بكلماتهم الجارحة، فأحدهم رفض تحويلات لي بالقول: لن يكون هناك نتيجة لتلك العمليات".
[[{"fid":"72650","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":433,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
هداية الأسطل أصبحت تتقن فن التجاهل
ومن أبشع ما تعرضت له هداية في رحلة ترميم جمالها، أن وجهها وصدرها - وهما أكثر ما حرصت على علاجهما - كانا مرفوضان في تحويلات علاج حصلت على موافقة عليها بعد معاناة، تقول بألم: "أذوني كثيرًا في مشاعري". صدمات كثيرة تعرضت لها بعد إزالة الأجهزة عن جسدها، وفي عمليات أخرى تحسست بعضًا من النعومة في جسدها، وشعرت بأمل في أن جمالها قد يولد من جديد.
كل ما سبق لم يعد يؤلم "هداية" بقدر ما آلمها نفور من حولها، بدءًا من زملائها في المدرسة خلال المراحل الثلاثة؛ الذين كانوا يرفضون الجلوس بجانبها في مقعدها الدراسي. مواقف الكبار شوَّهت جمال قلبها أيضًا، وقد تجّلى قبح بعضها في إحدى سيارات النقل العام، حينما صاح أحدهم عندما استقلت هداية وأمها السيارة: "سأدفع لك أجرة السيارة فقط أنزلها"، فرفض السائق نزول هداية ووالدتها من السيارة.
عندما استقلت هداية وأمها سيارة نقل عام، صاح أحدهم: "سأدفع لك أجرة السيارة فقط أنزلها"
تقول: "كنت في كثير من الأوقات أقف وأبكي في الشارع من بعض الكلمات الجارحة من الناس، لكني الآن في عمر الرابعة والعشرين، وأصبحت أتقن فن التجاهل".
اقرأ/ي أيضًا: غزة: ترميم الأثداء بين الكذب والحقيقة
لم تحظ هداية بأن يطلب أحدهم الزواج منها، لكنها لا تنتظر هذه الفرصة ولا تؤمن بها، رغم أنها نالت "إعجاب" أحد أصدقائها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، والسبب كما تقول: "لا أريد أن أسبب له إحراج أو أؤذيه من الناس".
وإن كانت هداية قد حازت بعض التعاطف والإعجاب، فإن ميسون عبد اللطيف حُرمت كل ذلك من قِبَلِ زوجها؛ الذي ساقته معتقداته القبيحة تجاه الجمال والمرأة لأن يُلقي عليها رصاصة الطلاق. تقول لـ الترا فلسطين: "أخذني جميلة، الكل كان يحسده عليّ. لم أحرمه من شيء ولم أقصر معه في واجباتي، حتى في اعتنائي بنفسي، فكنت أبدو دائمًا جذابة بالنسبة له".
تستدرك حديثها بالدموع، "ظننت أن العشرة أكبر من أن تهون عليه، تعرضت لحريق وأنا في مشوار عند أهلي أصابني بحروق في أماكن بجسدي". بدأ زوج ميسون يفتعل المشاكل معها بعد مدة قصيرة من الحادث، تقول: "لا يريد معاشرتي بسبب الحروق. كنت أعلم أنه يريد التخلص مني، إلى أن هنت عليه بلحظة ولم يكتف بذلك، بل حرمني أولادي فترة طويلة".
عاشت ميسون فترة حياتية مريرة عند أهلها، فكرت خلالها في السفر، وبعد أن أتمت إجراءاته مُنعت منه. كانت تريد الهروب "من واقع قبيح فرضه عليها مجتمع من عقائده البشعة أن جمال المرأة هو سلاحها القوي إن لم يكن الوحيد".
"أخذني جميلة، الكل كان يحسده عليّ. وبعد الحريق، طلّقني وحرمني من أولادي فترة طويلة"
رُبا بركة (19 عاما) مصابة بآثار حروق من الدرجة الثالثة في يدها اليسرى فقط، لم تأت النار سوى على هذا الجزء من جسدها، وما زالت تتمتع بجمال يفوق الكثير من زميلاتها في الجامعة. تسرد لـ الترا فلسطين بعضًا من ما يحدث معها قائلة: "أنا جميلة ولا يعيبني شيء، حتى أن إحدى صديقاتي في المدرسة خطبتني لأخيها وجاءت أمه على بيتنا وأعجبت بي كثيرًا".
توقفت فينة واستكملت حديثها المقتضب باستهزاء، "طبعًا أنا متفقة مع أمي بأن نُعلم أي شخص يأتي لخبطتي بحرق يدي قبل أي شيء، وبالفعل بلغناهم". صاحت أم العريس - تنقل منى انطباعها - "أهااا بسيطة كان الله في عونك"، وبعد دقيقتيْن استأذنت منا بالمغادرة، وقالت: كل شيء قسمة ونصيب.
غلَبت كفة ميزان "يد منى المحترقة" على كفة جمالها في الرد، فلم تقسط أم العريس في ردها حينما طلبت من ابنها أن "ينسى الموضوع".
نظرة المجتمع وتعامله السلبي أو الإيجابي مع هذه الفئة من ضحايا الحرائق، وهنّ الفتيات، تُشكل رافدًا لزراعة الأمل في الحياة أو كراهيتها
أخصائي التجميل أنس أبو الصفا، هو الذي تابع علاج هداية من غزة لمستشفى نابلس التخصصي، يقول: "هداية كنموذج تعرضت لصدمات من نظرات الأشخاص حولها تجاهها، خاصة النظرة الأولى التي يتراجع فيها أي شخص يقبل ناحيتها ويرى الحرق بوجهها، وهكذا باقي الفتيات ضحايا الحروق".
اقرأ/ي أيضًا:في بلادي يخافون ولادة الأنثى ويعزون أهلها
ويُبين أبو الصفا لـ الترا فلسطين، أن المستشفى يُحاول مساعدة هداية على الخروج للعلاج مجددًا إلى مشافي دول أوروبية لإجراء ما يسمى بـ"تغيير الجلد"، وهو علاج متطور جدًا وله نتائج إيجابية كبيرة، ويُمكنه أن يحوّل حياة أي ضحية حروق إلى الأفضل.
"رغم أن عددًا كبيرًا من الشابات يحاولن زراعة الأمل من العزيمة والإرادة اللتيْن يحاولن عدم خسارتها لتستمر حياتهن الطبيعية، إلا أنهن يعانين داخلهن من حسرةٍ وحزنٍ، وكل شيء يمكننا أن نقول عنه مؤلم"، يقول أبو الصفا. لكنه يجزم أن "الدعم النفسي هو أكثر ما تحتاجه - بالتوازي مع عمليات التجميل - أي شابة تعرضت لحادثةٍ سَلَبت منها أكثر ما يعنيها فسيولوجيًا بطبيعة كينونتها، ولأن الآخر لا يقبلها مشوهة".
اقرأ/ي أيضًا:
قصار القامة في غزة: الضحك يُخفي أوجاعًا