مقال رأي |
فتحت الثورتان العراقية واللبنانية الباب واسعًا على حفر جديد في مفاهيم التحوّل العربي، الناس أكثر ضد الفساد هذه المرة، وليسوا ضد النظام بتلك الموجة الثورية العالية التي انطلقت في مصر وتونس قبل سنوات.
حتى أن مصر قبل أسابيع عاشت تجربة الهبّة الثورية ضد الفساد بعد فيديوهات محمد علي ضد السيسي.
لم يعد الحكم السياسي وطبقته ومناصبه تشغل العقل المطالب بالتغيير، فمنصب جيّد في شركة أهم من منصب وزير لدى كثيرين من الشباب العربي، وأن تكون مؤثرًا مستقلًا على وسائل التواصل الاجتماعي أفضل من منصب عضو مجلس قيادة حزب كبير، وأقوى من منصة إعلامية بموازنة هائلة من حسابات الدولة.
كانت الهويات الطائفية والعرقية والجنسية تحفر وتتأجج وتطالب، إلى أن انفجرت في أكثر من مكان
الآن هناك مفهومان تحت الضربة في بغداد وبيروت: الأول الطائفية والثاني الفساد. فأيهما يحدد وجه سيناريوهات موجة الربيع الحالية؟
الطائفية ثانيًا، أعتقد أنها تأتي بعد الفساد، كعامل تفجير للشارع، فهي منذ عقود في ثقافتنا تعبير صوتي لمطالبتنا بالوحدة الوطنية، وهي مؤشر على توقنا إلى هوية وطنية خالية من الدين والعرق، لكنّها في حقيقة الأمر موجودة مثل كود مشفر داخلنا، أهملناه تحت ذريعة البروباغاندا القومية ونسينا أنّها تعدد من الماضي صار له أبعاد نفسية وبيولوجية مركبة ومعقدة، شئنا أم أبينا يشكلنا هذا التركيب المعقد، ولكن بالإمكان التعوّد عليه كخادم كبير في ماكينة التعدد وعامل مساعد لإنتاج قيم ومعايير ليس أقلها قبول الآخر ومحاربة خطاب الكراهية وإنتاج سلوكات ديمقراطية تقبل بصفات الآخر الدينية والعرقية والجنسية.
حاليًا: للأسف فإن الوعي الذي كوته الحرب الأهلية في لبنان يجعل من مفردة الطائفية مصدرًا للعنف، وفي العراق كذلك. وثمّة خطاب ثقافي عربي متفق عليه، صار مثل الأيدولوجيات الكبرى يناهض الطائفية دون أن يكلف نفسه عناء التفكيك والتفسير.
تاريخيًا كان التنظير لعكس الطائفية مغاليًا وخطابيًا ويحمل عنفًا رمزيًا ليس أقله "رئيسًا من أقلية" كرمزية على محي الطائفية، وتحت هذه الرمزيات كانت الهويات الطائفية والعرقية والجنسية تحفر وتتأجج وتطالب، إلى أن انفجرت في أكثر من مكان.
أفشل للمرة الألف في التنظير لفكرتي هذه عن قبول تعدد الطوائف والمذاهب، لكنني أمتلئ تعددًا وتنوعًا وغنىً ونحن نقول: "نحن موارنة، نحن سنة، نحن شيعة، نحن أكراد، نحن أمازيغ، نحن أرثوذكس، نحن سريان، وشركس وشيعة ودروز وصوفيون ولا دينيون وعلمانيون وملحدون... وكلنا مواطنون". اعترافنا بالاختلاف يؤهلنا لطلب المواطنة المتساوية.
وللفساد ومعالجته في هذه الحقبة العربية المهزومة مكان كبير لغضب الناس، في العراق ولبنان وفلسطين وفي أكثر من دولة صار للفساد طبقة مرعبة من المصالح والجرائم والهزائم.
ضمير الشارع وعقله نزيه وشفاف وصادق، لا يحابي طبقة ولا انتماء سياسي، وصريح في ضرب الفساد والفاسدين
ضمير الشارع وعقله نزيه وشفاف وصادق، لا يحابي طبقة ولا انتماء سياسي، وصريح في ضرب الفساد والفاسدين، هذا ظاهر في الإعلام رغم كل عوامل الهيمنة والرقابة، ظاهر في شبكات التواصل الاجتماعي وفي المقاهي وفي الرأي العام، ثمة فاسدون سفلة يأكلون خبز الناس وفرص عملهم ووظائفهم ويهدمون مناطق رزقهم.
ثمة فاسدون صاروا يتحكمون بفرص العمل وأفكار المشاريع ودراسات الجدوى ورشاوى الحدود والمعابر، وبعمليات الاستيراد والتصدير.
ثمة فاسدون صاروا يتحكمون بالشعوب أكثر من الدولة وأجهزتها الأمنية وفلول أحزابها التقليدية.
ثمة فاسدون لهم نشاط استغلالي يخرّب أكبر خطة تنمية وطنية في أي بلد عربي.
ثمة فاسدون في القطاعين العام والخاص يسرقون المناقصات الكبرى من الدول، يستلغون مناصبهم، ينشلون جيوب الناس بشبكة خدمات تحوّلت إلى شبكات لّم فواتير من كل الطبقات من العاطلين والمتعطلين ومن هم تحت وفوق خط الفقر.
ثمة طبقات من الفساد، لم تلتزم بتعريفه على أنه انتهاك للمال العام فقط، بل صار شكلًا مألوفًا من التعاملات في كل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.
على الدولة التي تغضب الآن من الشوارع المنفجرة أن تستغل اللحظة التاريخية، هنا ثمة مكان لقوانين وسياسات كبيرة لاسترجاع السياسة العامة من هؤلاء الذين صاروا عبئًا على الشعوب مثل نظام حكم بائد. ويخطئ من يقرأ تحديد ما يجري في بيروت وبغداد على أنه رفض لطائفية فقط أو لهيمنة واستبداد فقط، ثمة عامل حاسم دخل في بناء الثورات هو الفساد. وعليه وبه يجب أن نشتغل وننشغل في الفترات المقبلة.
اقرأ/ي أيضًا: