15-ديسمبر-2018

شابان وشما صورة سلاح على ساعديهما، في مواجهات بمخيم الأمعري في رام الله (صورة: عباس مومني/ getty)

في الصباح أُرسل لأختي "كيفك؟" تجيبني: "هيهم في البلد!" 

أرتبك أمام الضمير المتصل "هم" من هم؟ كانت تظنني قد طالعت الأخبار وعرفت بعمليّة إطلاق النار، وما تلاها من اقتحام المستوطنين والمستعربين للقرية. لم أكن أعرف شيئًا بعد. كانت الساعة السادسة صباحًا بتوقيت واشنطن.

  وجهُ الثورات مخيفٌ الآن، فملامحها تشوّهت وأقسى التشوهات هي التي تسبب بها أبناؤها فخلقوا العداء لها وأضعفوها وضيّعوا فكرتها وراء مصالح شخصية  

أختي الصغيرة في قرية محاصرة تخبرني في أي غرفةٍ تجلس وتصف لي كيف أحكمت هي وأمي إغلاق الأبواب وكيف تجنّبوا الجلوس في "البرندة" الزجاجية. أختي الصغيرة تطمئنني أنّ الجميع بخير، تصف لي كل شيءٍ بدقّة، لأنها لا تريدني أن أقلق.. أنا البعيدة عن صراخ المستوطنين وشتائمهم وهم يكسرون زجاج البيوت ويحرقون السيارات.. كان عليّ أن أهدأ وأطمئن ولا أقلق.

أكتب عن معانٍ سخيفة للخوف والقلق أنا البعيدة عن الحدث، وأفكّر ودون حق كيف أنّ العيش في المأساة ليس بالأمر السيّء دائمًا، فقد يكون الموضوع أشبه بدورة تدريبية لتقوية الشخصية، أشبه بأن يضعك أحدهم في اختبار لتمرين قلبك على التأنّي قبل أن يربكه الخوف، وتدريب عقلك على سرعة اتخاذ القرارات عندما تكون الحياة والموت في خانات قريبة جدًا، ولا يفصلها إلا قرارٌ عليك أن تتخذه في بضع ثواني.

"يقول الشهيد: أنا هنا حتى لو كنتُ ميّتًا"

"ماذا لو لم تكن السلطة موجودة"، أفكر هكذا عند كل عملية فدائية، عند كل مواجهة مع الاحتلال، عند كل مظاهرة واعتصام، عند كل خبر استشهاد وإصابة واعتقال أفكر في هذا الشعب العظيم لماذا يمثله هؤلاء؟ أقول هذا وفي قلبي تمُرُّ صورٌ لا تتوقف للشبان والشابات الشجعان الأذكياء الذين أثبتوا أنهم كُرماء حقًا عندما يتعلق الأمر بمنح الحياة، حتى لو كان الثمن نصرًا بسيطًا جدًا اسمه "أنا هُنا.. أنا أقاوم" لماذا ينتهي هؤلاء ولماذا تستمر السلطة! 

وكأنك ومنذ عقود مصممٌ على أن تُغلف قطعة ذهب بصفيحة نحاس!
طار قلبي عندما قامت الثورة التونسية وعندما رأيت المصريين يواجهون دولة مبارك ليلًا، وينظفون الشوارع في الصباح، بكيت كما لم أبك من قبل.. رأيت ولأول مرة الأمل وجهًا لوجه. وعندما غنّى السوريون للحرية أدركت أن استخفافي بأبطال الأفلام والروايات ومقتي لظهورهم الخيالي المعكر لحياتنا عبر الورق وشاشات التلفاز لم يكن عادلًا، هم حقيقيون ليسوا شخصيات خيالية تشوّش علينا الواقع، بل هم حقيقيون يصنعون الواقع وها قد أجبروا نشرات الأخبار على أن تتخلى عن أخبار "استقبل الرئيس وأعلن الرئيس وأكد الرئيس" إلى خبر "الشعب يثور على الرئيس". 

  ما جدوى أن تقاتل عدوك لتمنعه من دخول بيتك وأنت تشعر أن هناك من يعيش في عقر دارك ودائمًا ما يشُدّك من قميصك إلى الخلف!  

وجهُ الثورات مخيفٌ الآن، فملامحها تشوّهت وأقسى التشوهات هي التي تسبب بها أبناؤها فخلقوا العداء لها وأضعفوها وضيّعوا فكرتها وراء مصالح شخصية. وبات على الثورة أن تواجههم أولًا إن أرادت أن تنتصر لنفسها، وأن تسند ظهر الذين ما زالوا يدفعون حياتهم ثمن الفكرة بنقائها الأول حتى لو كان المقابل بسيطًا جدًا. فما جدوى أن تقاتل عدوك لتمنعه من دخول بيتك وأنت تشعر أن هناك من يعيش في عقر دارك ودائمًا ما يشُدّك من قميصك إلى الخلف! 

"يقول الشهيد: أنا هنا حتى لو كنتُ ميّتًا".


اقرأ/ي أيضًا: 

وطنيًا، ماذا يمكن أن نفعل قبل فوات الأوان؟

درع سلواد

السلطة عندما لا تكترث!