24-سبتمبر-2024
حرب غزة

(Getty)

عامٌ من الحزن المكتوم، من الدمع الحبيس على بوابة الحناجر المطوقة بالاختناق، من اكتساح النار لثياب القلب وماذا إن أُضرم الفؤاد هل من إربٍ لا يمسه الهباء؟ لقد كبرتُ في مدار العمر عامًا، وفي عين الصبر أعوام، غيرتني الحرب حتى طلقت هواجس الفقد فلا أكبر من أن نفقد ذواتنا، وكسرت قيد المخاوف بعدما اجتاح التغيير صندوق القناعات، تحررتُ من هيبة صناعة المستقبل، وإن كان حلمي يتحصن خلف أسوار الطموح، أمارس محاولاتي وإن بلغ الزهد فيها ذروته، أحاول إحياء قدسية العائلة قبل أن أحمل لواء التبجيل، أتخيل الفراق دائمًا فاحفظ الوصال والصلة بالحب، حتى إن كان من صورةٍ أخيرة تكن على هيئة لحظة ودٍ تُكتنز في شريط الذكريات. 

بقدر غرابة هذه الحرب يعتريني برد اليقين في أوج الاحتراق، تُنفَثُ بداخلي نفحات الفرح وأنا في قُنَّة الترح، أرضى وأنا في قمة القنوط، ابتسم والعين دامعة، أركض وأنا كسيحة، أحلم بالسفر وأنا أراقب تطويق المدينة، أرى العمارة وأنا أعاين الخراب، أسعى وأنا تائهة، أرقب في الأفق شيئًا وأعيش خلافه، وربما أحيا وأنا ميتة، اتكأ على القلم وأُكثر فلا أُبقي في داخلي شيئًا حتى وإن كان في البوح خطأ، فقد بتُّ أرى في بعض الأخطاء ضرورة التجربة، فمغامرةٌ تنتهي بالأسف خير من أن تظلّ حبيسة مقتلي أو مقتلًا لقلبي الحبيس، لقد باتت الحروف عالمًا أوسع من مجرد مشاعر، وأعظم من فكرة التوثيق، هي بلاغٌ ورسالةٌ ورأس مال، قبل هذه الحرب كلًّا منّا كانت له حربه الخاصة، وكنت أعزّي نفسي دائمًا بالسلوان والأجر، ولكن هذه الحرب الطاحنة جاء الابتلاء فيها عامًا، ولم يعد بوسعنا تلقف الأشياء أو أن نُقفها في وقتٍ لم نجد فيه من يوقفها، أما عن اللحظات بعد الحرب، فهي معاركٌ أخرى لا تقلّ ضراوة، ساحتها القلب، سيفها الذكريات، مقرها العقل، متكأها الصدر، سيدها الموت، عطرها مسك الراحلين، مسعفها القلم، وقد يكون دواؤها على هيئة صورة، والخالد فيها صدقة جارية مقرونة بحسن الذكر قبل الإبداع في الرثاء.

خريفٌ جديد والحياة أكثر هشاشة والمنية أقرب، وفوهة الدخيل تهدد الحاضر والمستقبل

كنت أصرخ وما زال الصدى حبيس القلب.. ما أبشع الواقع، ما أقسى الشعور، ما أشد الفاجعة، ما أبعد الإنسانية، ما أكذب السياسة، ما أقذر العدو، ما أسوأ الخيانة، ما أبسط الأمنيات، ما أصعب اللقمة، ما أغرب العالم، ما أبكم العروبة، ما أقزم الطموح، ما أثقل التعاقب، ما أنهك الأيام، ما أمر اللحظة، ما أنفر الهدوء، ما أجدب اللوعة، ما ألهب الحب.

لقد علمتني الحرب أن لا أقتصد في الفرح، وأن أبالغ في العطاء، أن أقاطع الكره، وأن أحفظ الوصال، وأن التزم التقوى، وأن أتسلح بالقلم، وأن أصون القرب، وأن أفرط في الدلال، وأن أتشبث بالتكافل، أن أقبض على الثبات، وأن أغرس الوعي، أن أقدّم النية، وأن أتنحى الجدال، أن أغلّف المبدأ، وأن أتهادى الحب، أن استثمر المناسبات، وأن أزخر باللقاء، أن أفيض باللطف، وأن أعيش المتعة، أن لا أضيّع فرص الحبور، وأن أقاطع الخصام، وأن أقدّس العائلة، وأن أنثر الأمل، أن أتوكأ على الاستعانة، وأن أشدد بالمؤازرة، وأن أتجاوز بالعون، وأن أحتضن الألم، وأن أصادق الكتاب، وأن أذكّر بالرحمة، وأن استحضر الثواب، وأن أتقوى بالآيات، أن أرتدي البهجة، وأن أتخفف بالبشرى، وأن استجلب السعة بالإنفاق، وأن استدرك الفقد بالاسترجاع، وأن اكتنز لحظات الود بالإحسان واحتواء الذكرى، وأن ألوح بالحمد، أن أغفو على الرضى، وأن أستيقظ على القبول كي أحيا بسلام، وأن أطلب الإنبات الحسن، وأدرك أن النبتة لا تحيا في غير أرضها.

خريفٌ جديد والحياة أكثر هشاشة والمنية أقرب، وفوهة الدخيل تهدد الحاضر والمستقبل بشهية مفتوحة نحو الحالمين والبراءة، لقد توحش الموت على خلاف عادته في السلم، حتى بات فاجرًا يرقد ويتربص ثم ينتهي في إصابة المقتل، ويكتب نهاية نازفة، أو يرسم النزف حتى النهاية، غريبة هذه الحرب.. جل الذين عرفناهم بالطيبة رحلوا خفافًا وأثقلنا رحيلهم، هدنة صارخة وصراخ بهدوء، أو لربما تضرم الهدنة نارنا فيلتهب الصراخ، لقد قزّمت الحرب أهدافنا، ولكنها لم تطل عنق الأمنيات التي عانقت السماء حيث العدل والإجابة والرجاء، أتوه في أسئلتي وأنا أتمتم "لقد متنا، ما فائدة ما نصنع؟!"، ثمّ أتهاوى في يأسي وكأنها القيامة، فتتلو أختي على مسامعي حديث الرسول: "لو قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها"، فأقوم استجابةً لمتسع الوقت رغم ضيقه لأزرع سنبلة، لانتصر في قبلة اعتذار عن كل تقصيرٍ وأنا أحدّق في وجه أمي، ولأحلم بأن أنجب ولدًا يحمل اسم عمي وشمسٌ تكلل "أيلول" الميلاد باسمها، وأهرع وأنا أحرر مشاعري بالكلمات، ثمّ أعافر وإن استسلمت إدراكًا مني بأن الإنطفاء وليد الظرف، وأن الإحباط نتاج ألمٍ مؤقت فلا أسمح بأن يكبح أملي، ولا أن يجتاح داخلي حتى يستقر على هيئة قنوط فأُهزم.