12-ديسمبر-2023
لم يزل العشب يرتجف (تصوير: قسام معدي)

لم يزل العشب يرتجف (تصوير: قسام معدي)

كان لم يزل في بطن أمّه عندما بدأت المشاكل تلاحقه، ولم يكن يعلم أحد أن قدره منذ البداية كان أن تصبح مشاكله عِبرًا يتذكّرها الناس، ويصير لها معنى خاصًا ذات يوم.

لم تمض أسابيعه الأولى على وجه الكوكب، حتى سرت في تلك التلال إشاعة بأن الأمور ستتبدل قريبًا، وبأن الأمل يتنفّس فعلًا في مكان ما. خاف الاحتلال أن تكبر الإشاعة حول وصول الأمل 

لم تكن "الممغنطة" قد اختُرعت بعد، ولم تكن قد دخلت "الخوارزميات" إلى الخدمة، عندما أمر ضابط الاحتلال الناس بالعودة إلى قراهم الأصلية، عبر الحواجز والطرق المغلقة، لإحصاء لون عيونهم وبحّة أصواتهم في سجلات "الإدارة المدنية". وضع أبوه مفتاح الدار في جيبه متنهدًا، فيما شعرت أمّه ركله في بطنها، ففكرت أنّ المهم هو ما يحمله الإنسان معه، لا ما يتركه خلفه، فكانت تلك أوّل عِبرة.

كان أبواه قد وصلا إلى مشارف القرية عندما جاء أمّه المخاض. كان الجوُّ مشحونًا بتوتر خاص تلك الليلة، حتى بدا وكأنّ العشب في الحقول لا يحرّكه النسيم، بل يرتجف. وهناك، تحت الحصار ومنع التجوال، دون أي "مساعدات إنسانية"، في قبو بيت ريفي حُفر في الصخر لإيواء المواشي، جاء إلى الدنيا. لم يكن مع أبويه أي من أقاربهما ليلتها، لكن بضعة رعيان من المنطقة قدّموا لهما المساعدة. فكّرت أمه؛ إذن الحب ليس لمن يرثه، لكن لمن يتبناه، وكانت تلك عِبرة ثانية.

لم تمض أسابيعه الأولى على وجه الكوكب، حتى سرت في تلك التلال إشاعة أطلقها بعض الرعيان، بأن الأمور ستتبدل قريبًا، وبأن الأمل يتنفّس فعلًا في مكان ما بين الناس. خاف الاحتلال أن تكبر الإشاعة حول وصول الأمل وتهديد أمنه القومي، فأطلق "عملية خاصة" على تلك القرى، ليحصد بنك أهدافه من أولاد التعساء.

بين دخان البيوت المحترقة وصراخ الأمهات الثكالى، نزح أبويه به مع من نزحوا. بعد أيام، وتحت قيظ صحراء بلد مجاورة، عطشانًا وملفوفًا بمنديل متّسخ، رأى في دموع أمّه مرارة حارقة، أكثر إحراقًا من شمس الصحراء، أحسّ بها إحساسًا دون أن يملك لها كلامًا بعد. في الواقع، كان قد اكتشف للتوّ، وهو رضيع، معنى أن يكون الإنسان لاجئًا. قال أحد الذين مرّوا بجانب حشود اللاجئين، عندما رآه، إن من لا وطن له، تصير كلّ الدنيا هي وطنه، فسرى ذلك القول فيما بعد، عبرة أخرى.

كان قد اكتشف للتوّ، وهو رضيع، معنى أن يكون الإنسان لاجئًا. قال أحد الذين مرّوا بجانب حشود اللاجئين، عندما رآه، إن من لا وطن له، تصير كلّ الدنيا هي وطنه 

لم يكن يعرف أحد ممن حوله، وهو يكبر، أي شيء عنه سوى أنه شقي ابن شقي، لأنه يكسب رغيفه من عمل يديه. لذلك عندما قال إن العميان سيعودون ليروا قريبًا، طرده قومه من بينهم. قال لنفسه "عِبرة جديدة" وهو يبتعد عنهم ويمسح دمعة خيبة: "لا كرامة لنبي في وطنه".

لم تنفك المشاكل عن اللحاق به، حتى اتّهمه الاحتلال بأنه ساعد كسيحًا على النهوض، وأنقذ امرأة مظلومة من أيدي من كانوا سيرجمونها، وطرد تجّار الدم من بيت الله. ضاقت به الدنيا في بستان بعيد ذات ليلة، وكان جنود الاحتلال يطبقون الطوق حوله لاعتقاله.

تذكّر لحظة اعتقاله دموع أمه ولجوئه، والرعيان وجثث الأطفال، وارتجاف العشب ليلة دخوله التاريخ، وفكّر في كم أنه سيكون من سخرية القدر أن يحوّلها الناس إلى مناسبة للاحتفال دون عبرة. قال لأصحابه القلائل قبل أن يمضي إلى حتفه، مقبلًا غير مدبر، عِبرته الأخيرة: "سيرفضكم هذا العالم التعيس كما رفضني، لكن ثقوا، أني قد غلبت العالم".

ثم مضى...