29-مايو-2018

كنت لا أزال مراهقًا عندما عرَفتُ جبرا إبراهيم جبرا، روائيًا، إلى جانب عبد الرحمن منيف، في روايتهما "عالم بلا خرائط"، أولى الروايات التي قرأتها في حياتي. كنت لا أزال مراهقًا آنذاك، وكنت متخبّطـًا بكلّ شيء، بالأفكار، بالتطلّعات، بالمعتقدات، والآن، لم يبتقّ شيء من كلّ ذاك، لا شيء يُذكر، سوى "عالم بلا خرائط"، وروايات أخرى كثيرة لـجبرا ومُنيف.

كان السّردُ مذهلاً، نهرًا يفيضُ من الجانبَينِ بكلِّ أنواعِ الكلامِ المُرسَلِ وغير المُرسَل، عرَفتُ جبرا نهرًا متفجِّرا بالكلماتِ والأفكار، وعرفتهُ غريقًا بالمرأةِ وغريقًا في اليأس، وكأنَّه، في كلِّ رواية من رواياته يتَّبعُ قولَ أبِي الطيّب المُتنبّي: "أنا الغَريقُ فما خَوفِي من البللِ"، غرَقَ، غرَق، غرَق أعمى، غرَق بفعلِ ذاتٍ مدمِّرة لذاتها، غرَقْ بفِعلِ غضبٍ جامح، غرَقْ بفِعلِ صُراخٍ في ليل طَويل لا يحتمل؛ كلُّ أنواع الغرَقِ عرَفتُها في شُخوصهِ وسرديّاتهم وهمومهم وصراخهم الطّويل.

عرَفتُ جبرا نهرًا متفجِّرا بالكلماتِ والأفكار، وعرفتهُ غريقًا بالمرأةِ وغريقًا في اليأس

علاء نجيب، آلُ سلُّوم، آلُ رعد، سراب عفّان، ظلالُ امرأة في أوروبا، سفينة في المتوسط، ميلانو مدينة المحرَّمات ومدينة الشهوات، عمُّورية قلبُ عالمٍ بلا خرائط، ووليد مسعود، الذاتُ المدمِّرة لذاتها، قوَّة الجنسِ الهائلة متّحدة بقوّة الموت الأكثر هولاً، د. فالح ومشرطُ دوستويفسكي يُشرِّحُ من على متنِ سفينة آلام البشريّة وهمومها، صفاء، الأخُ الأكبَرُ، أدهَم، الأخُ الأصغَرُ، الثائرُ الهاربُ من شهوات عمّورية وفسادها وغرقها في ذاتها إلى فلسطين، سراب عفّان الهاربة إلى فلسطين في أوروبا، الهاربُون دائمًا، لَمى، نجوى، سراب، مريم، نساء، نساء كثيرات، نساء خطِرٌ خيالهم الخصبُ، وخطرٌ الاقترابُ منهم وخطر الابتعادُ عنهم، غرف أخرى، غرف كثيرة، غرف تتبدّل بها الشخصيّات وتخرجُ من شخصيّة إلى أخرى، عوالمُ ما وراء الغرف وما داخلها، عوالم أخرى، عوالم كثيرة، الصعود على المسرح والنزول عنه، الوقوف والتّحديق في جمهورٍ مفرط في التشابه ومفرط في الاختلاف، عمّورية، السفينة، والمقبرة، وفتاة من القدس، وقبلة في المقبرة، قبلة محرّمة، وحسام الرعد، حسام الرّعد السِّكِّير يصرخُ في شوارع عمُّورية: "أما آن لهذه المدينة أن تحترق؟!"، ويقهقه عاليًا عاليًا ويسقطُ على ركبتيه ليموت في حجرةٍ تهدرُ بصوت آلات طباعة الصحف اليوميّة التي لن تحمل خبر موته في يوم من الأيام.

الطوباوية والعدمية

"في مرحلة معيّنة من العمر يريد الإنسان أن يهدم العالم، يريد ألّا يبقي حجرًا على آخر، ويريد أيضًا أن يعيد بناء هذا العالم وفقًا لصورته المثالية. أغلبُ النّاس يسلّمون، ومع مرور الأيّام يقتنعون بأن تسليمهم كان الحكمة بعينها، ولكن يبقى حنين من نوع ما يملأ صدروهم. أما المجانين فإنهم لا يُسلّمون ولا يتوقّفون عن المحاولة"، عالم بلا خرائط. بهذه الكلمات يصفُ "حسام الرّعد"، الشخصيّة الأكثر صخبًا وجنونًا في رواية عالم بلا خرائط؛ طبيعة الصراع النفسيّ الذي عاشه المثقّف العربي، وأيُّ مثقّف آخر في العالم الحديث، وهو يشعرُ أنّ من حقِّه تغيير العالم، بل أنّه يملك من القوّة والقدرة ما يؤهِّله لقلب العالم رأسًا على عقب، وفقَ صورته المثالية عن العالم.

اقرأ/ي أيضًا: سياسات صنع العدو: قراءة في كتاب بيار كونيسا

إنّه صراعٌ قديمٌ جديد في الأدَب، صِراعُ الطُوباويَّة مع النّزعة العدميّة التي سادَت فِي الأدب الحديث بعد الحرب العالميّة الثانية، والقارئ المتأمِّل لجبرا، يدركُ أنّ هذا الصراع نفسه الذي خاضه المثّقف الأوروبيّ، كان حاضرًا في نقاشاتِ المثقّفين العرب وفي أعمالهم.

فبعد سنوات التحرّر الأولى من الاستعمار البريطاني والفرنسيّ، آمن المثقفون العرب والإنسان العربيّ أن بإمكانهِ حقًا أن يُغير شيئًا، أن يتغلَّب على هزيمة مفاجئة هي نكبة عام 1948 وخسارة فلسطين، وعاش هذا الإنسان سنوات الحداثة الأولى، سنوات الإيمان بقيمة الإنسان والفرد بالتوازِي مع قيم الوطنيّة والجماعة، جنبًا إلى جنب، في عمليّة التحديث والتغيير.

بعد سنوات التحرّر الأولى من الاستعمار البريطاني والفرنسيّ، آمن المثقفون العرب والإنسان العربي أن بإمكانه حقًا أن يُغير شيئًا

في تلك المرحلة، أحسّ الإنسان العربيّ أنه على وشَكِ الخروج من ظلماتِ الماضِي والتحرر بشكلٍ نهائيّ من القيود الدينية والاجتماعية والسياسية التي فُرِضَت باسمِ السُّلطة بمختلفِ أشكالها على الفرد، وحدّت من قدراتهِ وموقعهِ من الفضاء العام، إذ لم يكن هنالك من فضاءٍ عام حقيقيّ أصلاً. إلَّا أنّ الخيبات توالت، فقد جاءت هزيمة عام 1967، وتلتها هزائم أخرى، وتلاها الاستبداد، وتلتها حروبٌ أهليّة فظيعة، وحروبٌ إقليمية.

كانت النكسة، ثمّ كانت بيروت، فحماة، فغيرها من الأحداث العِظامِ التي أسقطَت كلّ شعارات المرحلة السابقة وحوّلتها إلى رماد. وبدلاً من إقامة نصُبٍ للفردِ وقدراته الفرديّة ومجاله الخاصّ وللحريّة، أقِيمت "المقصلة"، وسقطَ الإنسان والثقافة معًا. ومع هذا السقوط، سقطَت أيضاً القيَم الإنسانيّة، الحرية، وحتى قيمة الحياة نفسها. هذا كلُّه، وكما المجازر الجماعية وتلال الجثث ومعسكرات الاعتقال النازيّ، قادت المثقّف والأديب الأوروبيّ إلى الاقتناع مرّة واحدة وأخيرة بعبثيّة الحياة، راح بعضُ المثقَّفون العرب أيضًا والأدباء يعبِّرون عن هذا الاقتناع، أو على الأقل، ينقلونه في رواياتهم، تاركين لنا، نحنُ الذي نعيش اليوم، أن نتّتبع أنفاس الهزيمة الأولى، أنفاس العبث الأولى في روح النثر العربيّ.

يعبِّر عن هذا الاقتناع والصراع شخصيّة د. فالح، الطّبيب الجرّاح، الرافضُ الذي يُشبهُ إيفان كارامازوفُ شخصيّة دوستويفسكي الأشهرُ برفضها للعالم ولنظام الكون، بقوله: "لقد سئمت، زهقت، قرفت. لا أريد أن أقرأ جريدة، أو أسمع مذياعاً، أو أحضر حفلاً عاماً. ليتزوج الكذّابون الكذابين، وليدفن الكذّابون الكذابين.. أريد تمزيق الوهم من حولي، ولكن كلما رأيت الحقيقة، أو ما يخيل إليّ أنه الحقيقة، ارتعبت، وغضبت، والآن لا أدري الواقع ما هو السرطان الضارب في هذا الجسد: الكذب أم الحقيقة؟ أنا قد انتحر.. إني أفعل ذلك، لأنّي فالح.. الذي نظر إلى العالم فوجده كرة مليئة بغاز سام خبيث الرائحة تفش رويدًا تحت أنفه، فركلها بقدمه إلى حيث ألقت، وأكل بذلك على أنه يرفض، كما شاءت له إرادته أن يرفض..".

العاصمة العربية.. ثيمة الحداثة والهرب إلى فلسطين

تحضر العاصمة العربيّة في روايات جبرا بقوّة، في بغداد مرّة، وفي "عمورية"، المدينة المتخيّلة التي تجري فيها أحداث رواية عالم بلا خرائط، كرمز متخيَّل للعاصمة العربيّة بكلِّ ما حوَته من فضائل ورذائل، من فجور ومال، من اضطرابات وفساد وسياسة..إلخ.

اقرأ/ي أيضًا: حسين البرغوثي.. العابل الهائل في الضوء الأزرق

عاش جبرا في بغداد في سنوات التطوُّر الأولى، وشهدَ النموّ الهائل والمتسارع لمدنٍ كانت إلى زمن قريب من زمنه ذاك، شبه غائبة عن خارطة العالم، والآن وإثر اكتشاف النفط الذي يصفه على لسان إحدى شخصيّاته "بالخطيئة.."، التي اكتشفها البريطانيون ومارسها العرب، وقد عمل هو نفسه في شركة نفط العراق، وراقبَ هذا السيل المفاجئ من الأموال التي تدفّقت إلى بلادٍ كانت مقفرة تعجُّ بالمزارعين حتى عهد قريب.

إذن تعلّمنا الخطيئة وغرقنا فيها، وغرقت العواصم العربيّة بأموالٍ سريعة التدفُّق لم تعرف ما تصنع بها. وكانت فلسطين على الجهة الأخرى من النهر، تغرق بخطيئة من نوع مختلف، خطيئة الاستعمار الأوروبيّ، الكيان الصهيونيّ. وكان الفلسطينيُّ يتنقّل من عاصمة عربية إلى أخرى، هذا يحدِّثهُ عن مهمة غير منجزة، وذاك يحدِّثهُ عن ضرورة الحداثة وشرطها التطوُّري وضرورة التأجيل. كلُّ هذه الشروط الإنسانية وغير الإنسانيّة، كلّ هذا الغرق، بالخطايا، بالمال، بالشهوات، بالحداثة، بالتطوُّر، كلُّ هذا، كان حاضرًا في رواياته، وعلى الأخصّ، روايتيّ "البحث عن وليد مسعود"، و"عالم بلا خرائط".

كان الهرب إلى فلسطين، هو طريقُ شخصيّات جبرا المتأزِّمة في عالمٍ محموم بالتجارة والعبوديّة

وبعيدًا عن المدُن، كان الهرب إلى فلسطين، هو طريقُ شخصيّات جبرا المتأزِّمة في عالمٍ محموم بالتجارة والعبوديّة. هربَ وليد مسعود إلى فلسطين، وأدهم سلّوم، وسراب عفّان، ووديع عسّاف. وبقي عصام السلمان، وعلاء نجيب، ونائل عمران، والروائيُّ المثّقف فيهم، مراقبًا عاجزًا، يسجِّلُ يوميّات باردة جافّة، شهوانيُّون، أنانيون، مفرِطون في إنسانيّتهم، يمدحون يأسهُم، ويرثون الموتى من حولهم ويحذِّرون من عواصفَ لا بدّ ستهبُّ على العاصمة العربيّة، وعلى "عمُّورية". وكأنّ جبرا إبراهيم جبرا، يبدو كنبيّ متشائم، وكأن رواياته كلّها، وروايته "عالم بلا خرائط" تحديدًا، رواية نبوئية بشكلٍ أو بآخر، الرواية التي كتبت في عام 1982، ولا تزال حتى الآن تشير مرة إلى جذور المأساة ومرة إلى صورتها في حاضرنا بعد هذه الأعوام الطويلة كلّها؛ يكتبُ كلٌّ من جبرا ومنيف في الرواية:

لأهل المدينة أن يناموا مطمئنين سنة أو اثنتين، غير أن العواصف سوف تصلهم، وهي لن تصلهم هذه المرة كأصداء أو انكسارات، وإنما كحمم وزلازل وبراكين، سوف تمطر فوق رؤوسهم كما تمطر الطيور الخرافية، وعندها سوف يموت الناجون منهم بالفزع، وإذا قدّر لعدد محدود أن يصل إلى إطراف الصحراء أو شواطئ البحر، فسوف يموت من العطش أو الكمد. وإن سؤالاً مريرًا قاسيًا لسوف ينطلق من أفواههم حتى لو لم يريدوا: "أين كنّا؟ لماذا لم نسمع؟ لماذا لم نفعل شيئاً؟".


اقرأ/ي أيضًا:

ساعة غسان كنفاني

أدب السجون.. كيف يرى النور؟

نظرة جديدة لفلسطين قبل النكبة: الاقتصاد والمجتمع