في حلقة تحليلية حول العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، استضاف التلفزيون العربي المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عزمي بشارة، وتناول اللقاء ملفات متعددة استهلّت بالحديث عن فظاعة الواقع الإنساني في القطاع، مرورا بالعملية البرية وملف الأسرى والمفاوضات الجارية حوله وحول ملف الهدن الإنسانية ومصير الحرب بصورة عامة، وصولًا لتناول الموقف الأمريكي والمواقف الإقليمية والدولية من العدوان الجاري.
واستهل المفكر العربي عزمي بشارة حديثه بالجانب الإنساني، معتبرا أنه يجب ألا نعتاد على الأرقام الكبيرة لأعداد الضحايا الذين يسقطون يوميًا، مؤكدا أن الحرب الجارية هي حرب "شاملة وهمجية" وضعت لها حسب عبارته "قواعد غير أخلاقية"، جرى التعبير عنها في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بشكل متكرر، بدْءًا برئيس دولة الاحتلال الذي قال في كلام همجي بربري بأنه "لا يوجد أبرياء في غزة"، مرورًا بتصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي الذي قال إنهم "يتعاملون مع حيوانات بشرية"، مكررا شعار " لا كهرباء لا ماء"، والأمر الفادح أخلاقيًا مرور هذا الكلام وكأنه عادي ومحاولة تجاهله "غربيًا".
وعليه يرى بشارة أنّ نتائج القصف الإسرائيلي المكثف "ليست أضرارًا جانبية غير مقصودة وإنما العكس"، بهدف معاقبة الشعب في غزة لينقم على من كان السبب من ناحية ولدفعه إلى خيار التهجير، ولكي لا يتكرر ما حدث في السابع من أكتوبر من جهة أخرى بحسب الدعاية الإسرائيلية. والخلاصة أن "معاقبة المدنيين أمر مقصود"، وأشار بشارة في هذا السياق إلى أنّ هذا الأسلوب المتمثل في معاقبة الفلسطينيين "منهجي متكرر في التاريخ الصهيوني". ليتوصل مؤلف كتاب "فسلطين مسائل في الحقيقة والعدالة" أننا "لسنا أمام حرب وإنما جريمة حرب طويلة ممتدة".
كما لفت بشارة الانتباه إلى وجود مزاج عام إسرائيلي عنصري يوجد في مناهج التدريس العنصرية الإسرائيلية غير المفحوصة، وجرت تغذيته باستمرار من طرف القيادة خلال هذا العدوان. واعتبر في ذات السياق أنّ "الشيء المثير للغضب أننا لا نسمع عند قصف مستشفى أو مدرسة، فيما عدى أصوات ديمقراطية حرة أخلاقية، إدانات رسمية". مؤكدا أنّ هذا الصمت مضر "بالأعراف الدولية والقيم الكونية التي لحقها ضرر كبير"، فالقادة يدافعون عن المجازر برفضهم العلني السافر لوقف إطلاق النار.
وحول أهداف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قال إنّ رأيه كان منذ البداية أن موضوع الأسرى ناجم عن ضغط شعبي لكنه هدف خاضع للهدف الاستراتيجي المتمثل بالقضاء على حماس"، مشيرًا إلى وجود إجماع إسرائيلي أمريكي على هذا الهدف. ولامتصاص الضغط الشعبي يحاول الإسرائيليون "أن يظهروا أن تكثيف القصف يساعد في تحرير الرهائن في حين أنّ العكس صحيح"، فما يحتاج إليه لإطلاق سراح المدنيين هو "هدن واستمرار القصف يتنافى مع ذلك المسعى". وبشأن ما يثار حول مفاوضات عن الهدن الإنسانية، قال بشارة إن "الهدن المقترحة من الإسرائيليين بصيغة 24 ساعة فقط هي ذر للرماد غي العيون وتؤكد أن الأسرى ليسوا الأولوية، فمن يقبل بقتل آلاف الأطفال تقريبًا بشكل متعمد لا تهمه حياة الأطفال إلا من باب الدعاية السياسية". وفي معرض الحديث أيضًا عن الهدن والتعاطف الأمريكي مع إسرائيل قال بشارة إنّ "الرفص العلني لوقف إطلاق النار يعني الموافقة على جريمة حرب طويلة وممتدة"، مضيفًا أن مبالغة بايدن في دعم سلوك إسرائيل "لا يوجد لها تفسير إلا النفاق"، وأن لبايدن "ميول حقيقية صهيونية ونفور لا واعي تجاه العرب والمسلمين ربما"، من دون استبعاد وجود أسباب سياسية.
يرى بشارة أنّ نتائج القصف الإسرائيلي المكثف "ليست أضرارًا جانبية غير مقصودة وإنما العكس"، بهدف معاقبة الشعب في غزة
وفيما يتعلق بملف تبادل الأسرى، يرى بشارة أن الصيغة المقترحة من حماس "الجميع مقابل الجميع" ليست ضربا من الخيال، بل ثمة فئات واسعة من الشعب الإسرائيلي مقتنعة بهذه المقايضة، لكن صناع القرار لا يوافقون على هذه الصيغة لأنّها "ستحسب إنجازا" للمقاومة. وفي هذا السياق، يرى بشارة أنّ المشكلة ليست الأعداد، بل تكمن في مشكلتين هما: ربط الأسرى بالهدن الإنسانية التي لا تتم أصلا بمقابل في الحروب، والثانية هي الوقود. فهدف صانع القرار الإسرائيلي مواصلة الضغط على الشعب ليضيقوا على المقاومة وليدفعوا سكان القطاع نحو الهجرة، أما باقي التفاصيل فالخلاف عليها غير جدي.
وحول العملية البرية رجّح بشارة أنها تنجز على مراحل، ليقين صانع القرار الإسرائيلي أن الاجتياح دفعة واحدة قد يكون وقوعا في المصيدة، والهدف من الاجتياح البري "تقطيع أوصال غزة وعزل شمال القطاع عن جنوبه". وتحدث بشارة عن 3 أمور يجب النظر إليها في هذا الصدد، مع أخذ عامل المقاومة التي ستشتد بعين الاعتبار، وهذه العوامل هي:
1 الإجماع الإسرائيلي على الحرب والانتقام من حماس واستعادة التوازن والهيبة.
2 وجود إجماع أمريكي إسرائيلي على الأهداف.
3 الموقف العربي المكتفي حتى الآن بالاستنكار.
ويشير المفكر العربي في هذا الصدد أنه طالما بقيت هذه المتغيرات الثلاثة ثابتة ستواصل إسرائيل مساعيها لبلوغ أهدافها من الحرب، لكن المتغير المتعلق بالمقاومة والرأي العام العربي والدولي وفاعليته سيكون أيضًا مؤثرًا في مسار الحرب، هذا مع التأكيد على أنّ "احتلال غزة لن يكون رخيصا" حسب بشارة. ويبدو من السلوك الإسرائيلي في القصف أنّ "الفشل الاستخباري يعوض عنه بالقصف الهمجي الواسع".
فيما يخص الضغط الشعبي في ملف الأسرى على نتنياهو وحكومة الحرب، قال بشارة إنه يتم النظر إلى نتنياهو "بوصفه نام وقت الحراسة" وبالتالي يتحمل مسؤولية ما حدث في السابع من أكتوبر
وفيما يخص مخطط التهجير إلى سيناء يرى أن لدى إسرائيل خطة تهجير دائمة، وبدأت تهجير السكان الأصليين بشكل منهجي منذ عام 1948، ومع أنهم لم يتمكنوا من التهجير القسري في الضفة والقطاع، لكنهم دفعوا أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين إلى الهجرة بسبب التضييق. وبالنسبة للتهجير إلى سيناء فهو حلم إسرائيلي، لكن طالما يوجد رفض مصري ووعي فلسطيني، فهو غير قابل للتحقيق إلا إذا قامت إسرائيل بمذبحة شاملة.
وفيما يخص الضغط الشعبي في ملف الأسرى على نتنياهو وحكومة الحرب، قال بشارة إنه يتم النظر إلى نتنياهو "بوصفه نام وقت الحراسة" وبالتالي يتحمل مسؤولية ما حدث في السابع من أكتوبر، كما يتم التشكيك في قدرته على إدارة الحرب وثقة الجيش المهزوزة به، وظهر ذلك جليًا في استعانته بالجنرالات. وأكّد مؤلف كتاب "من يهودية الدولة حتى شارون" أنّ مستقبل نتنياهو السياسي قد انتهى وحياته السياسية تمتد بشكل اصطناعي فقط.
الإدارة الأمريكية: هل يمكن أن تتغيّر المواقف؟
لا يستبعد مؤلف كتاب "صفقة نتنياهو-ترامب" أن يتغير الموقف الأمريكي بشرط حصول تغير كبير على مستوى الرأي العام وقد بدأ ذلك، هذا من جهة، وأن تقوم الدول العربية بخطوات على مستوى التطبيع مع إسرائيل، بحيث تعلن وقف التطبيع وتهدد بقطع العلاقات مع تل أبيب وتقوم بقطعها. "حينها يكون الأمر جديَا وتأخذه أمريكا بجدية أيضا". ويبدو أن هاجس الإدارة الأمريكية من خلال زيارة بلينكن الأخيرة لعمّان هو اليوم التالي للحرب، فقد جاء لنقاش تلك المسألة، وهو أمر يبدو أن الأطراف العربية في عمان رفضت نقاشه، وركزت بدلًا منه على وقف إطلاق النار وهو ما ترفض واشنطن الحديث فيه. وقال بشارة في هذا الصدد "إن نقاش اليوم التالي بعد انتهاء الحرب في غزة هو سؤال عن من سيأتي على ظهر دبابة إسرائيلية لحكم القطاع". وبشأن ما أثير مصريًا حول المحاكم الدولية اعتبر أن "المحاكم الدولية تنصب للمهزومين تاريخيًا. فالمنتصر لا يحاكم وعندما تهزم انتظر أسوأ الأشياء". كما اعتبر أن "أضعف الإيمان فتح معبر رفح وعدم التنسيق مع إسرائيل".
فيما يخص موقف تركيا قال بشارة إن الحسابات البراغماتية تطغى على ما سواها فـ"لم نر خطوات جدية من بلد مهم يمكنه اتخاذ خطوات مهمة". وأكد في هذا السياق على أن "تعامل إسرائيل بعد الحرب سيكون مختلفًا في حال انتصرت"، وعليه فإن "الجميع لديه مصلحة في ألا تحقق إسرائيل نواياها". واعتبر في هذا السياق أن أقوى المواقف حتى الآن تلك القادمة من أمريكا اللاتينية، منوهًا إلى ضرورة تقدير تلك الخطوات التي تعكس موقفًا مبدئيَا لدى تلك الدول من الإمبريالية عمومًا.
وفيما يخص إيران يرى بشارة أنه بات واضحًا أنه ليست لدي طهران نية لخوض حرب. ويمكن قراءة استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة كرد على إرسال أمريكا حاملات طائراتها وأساطيلها إلى المنطقة في تهديد صريح لإيران بعدم الدخول في الحرب.
وحول خطاب حسن نصر الله تساءل بشارة لماذا عقدت توقعات كبيرة على الخطاب؟ مرجحا أن يكون ذلك نتيجة لخيبة الأمل من الدول العربية. لكن بشارة أكّد أنه ليس متوقعًا من الحزب أن يعلن الحرب في خطاب وليس مطلوبًا منه إعلانها، مشيرًا إلى اختلاف حساباته كقوة سياسية تلبننت أكثر من السابق. واعتبر أن هناك قرار بعدم حرب لكن قد تتدحرج الأمور إلى ذلك، وأضاف أن حربًا على مستوى لبنان لن تغير طبيعة وقواعد الحرب في غزة على الأرجح، ولكنها تخفف الضغط عليها، وهذه الأمور معقدة ولا بد أن تدرس بدقة، موضحًا أن هناك تغيرًا في قواعد الاشتباك. مع ذلك فقد أشار بشارة إلى نهاية فكرة توازن الردع إسرائيليًا مع حركات المقاومة، وتغير قواعد الاشتباك تضع الإسرائيليين في حالة من عدم اليقين والتهديد.
الوضع في الضفة الغربية والداخل والحراك الشعبي في العالم
في الجزء الثاني من المقابلة أكد المفكر العربي أن ما يحدث في الضفة الغربية هو معركة حقيقية وبطولية رغم اعتداءات المستوطنين المتواصلة، مشيرًا إلى أن هناك نقاش عام بين الفلسطينيين اليوم حول السلطة ودورها. ومع أن هناك جزءًا من مؤسسات السلطة الفلسطينية له دور اجتماعي، لكن ما يغيب ليس مجرد اتخاذ موقف ولكن اتخاذ خطوات. وأضاف بشارة أن السلطة لم توقع اتفاق أوسلو مع المستوطنين الذين يعتدون على الفلاحين الفلسطينيين يوميًا ويتوسعون في الخليل ومناطق أخرى، وعليها أن تدافع عن الناس، ولا يجب أن يقتصر دورها فقط على مناشدات في الأمم المتحدة. فهذه خطوات حد أدنى، ودور السلطة يجب أيضًا أن يكون في دفع الدول العربية لاتخاذ خطوات وليس إدانات عامة، أي التأثير على مستوى صنع القرار السياسي في ظروف الاستشراس الإسرائيلي على الضفة الغربية.
بشأن الحراك الشعبي في العالم، أكد بشارة أنه مهم جدًا، ويمثل البعد الأساسي الأخلاقي للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية عدالة
وفيما يتعلق بالفلسطينيين في إسرائيل، أشار بشارة إلى وجود تضييق واستغلال لظروف الحرب لتمرير سياسات ما كانت لتمر في أوقات أخرى، موضحًا مستوى قمع حرية التعبير الذي يتزايد بشكل غير معقول، بما يشمل اعتقالات وفصل من الجامعة على خلفية منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي. مضيفًا أن طبيعة إسرائيل تظهر جلية في لحظات الأزمات، فتتحول إلى قبيلة، وتترجم المواطنة من درجة ثانية للفلسطينيين إلى غربة عن هذه القبيلة.
وبشأن الحراك الشعبي في العالم، فقد أكد أنه مهم جدًا، ويمثل البعد الأساسي الأخلاقي للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية عدالة، مشيدًا بتضامن القوى الديمقراطية والتحررية في العالم، رغم أنهم قد لا يتفقون مع حماس. وهي رسالة يجب أن تصل إلى العرب الذين يضعون صراعهم مع حماس كأولوية على موقفهم من عدالة القضية الفلسطينية. وأشار بشارة إلى أن هؤلاء المتضامنين يواجهون مكارثية جديدة في الغرب اليوم ويدفعون الثمن. ويضيف وجود الناشطين اليهود بينهم أهمية كبيرة، لنزع الشرعية عن تهمة معاداة السامية، فالمشكلة ليست مع اليهود، ولكن مع الاستعمار الاستيطاني. واعتبر المفكر العربي أن هذا التضامن هو موقف أخلاقي وليس أيدولوجيا عند جيل جديد لا يعرف الانقسامات الأيدلوجية التقليدية.
كما بين أن هناك تغير في الخطاب الإعلامي الغربي بعد حجم المأساة وتصاعد المقاومة واكتشاف بعض الأكاذيب الإسرائيلية والابتزاز العاطفي. وبشأن توظيف الهولوكوست، كرر بشارة أنه حدث في دولة شمولية أوروبية وفي أجواء من معاداة السامية، والضحايا ليس لهم علاقة بالصهيونية، ولا يحق لإسرائيل تمثيلهم. مختتمًا حديثه بتأكيد أن الاتهام بمعاداة السامية أصبح وقحًا لدرجة استخدامه ضد من يدين قتل الأطفال في غزة.