16-يناير-2022

تكاثر الأخذ والرد خلال الأيام الماضية حول القطاع الصحي في فلسطين. مناكفاتٌ حاميةٌ بين مؤسسة النجاح الوطنية والحكومة الفلسطينية من جهة، وطوفان من الاهتمام الاجتماعي بمصير مستشفى خالد الحسن للسرطان من جهة أخرى.

موازنة التطوير النظرية تشكل أقل من 8% من مجمل موازنة وزارة الصحة للأعوام 2019-2021. أما الموازنة المتحققة فقد بلغت مستويات منخفضة غير مسبوقة

والحقيقة أن الأزمة أكثر عمقًا وقدمًا من الأحداث الراهنة، بل وأكثر استدامة وحدية في المستقبل القريب. ولذلك سيكون طبيعيًا أن تتكرر الكوارث بفقدان الضحايا .

الرعاية الصحية منذ عقود تحولت من خدمة يعتمد نجاحها على المهارة الفردانية الطبية إلى خدمة تتطلب كثافة رأسمالية عالية (Capital Intensive)، أي أنها تحتاج كميات هائلة من الأموال، وليس فقط تعدادًا لعدد الأطباء أو الغرف أو الأسرَّة.

كيف نمتحن هذه الحقيقة في فلسطين؟

ببساطة، قد تكذب التصريحات ولكن الأرقام لا تكذب، وهي تكشف عزوفًا جوهريًا عن توسيع جودة الرعاية الصحية الحكومية وشموليتها. فموازنة التطوير النظرية تشكل أقل من 8% من مجمل موازنة وزارة الصحة للأعوام 2019-2021 (232 مليون شيكل للعام 2021 ). أما الموازنة المتحققة (أي المصروفة فعليًا عام 2021 ) فقد بلغت مستويات منخفضة غير مسبوقة (6% من الـ8% المرصودة نظريًا – 13 مليون شيكل حتى منتصف 2021 من مجمل 232 مليون شيكل ).

تخرج بعض التصريحات المبررة بأن ذلك يعود للأزمة المالية للسلطة الفلسطينية، لكن مرة أخرى تُكذّب الأرقام هذا التبرير، إذ بلغت موازنة التطوير المتحققة والمصروفة فعليًا عام 2021 لقطاع الداخلية والأمن أربعة أضعاف (13 مليون شيكل مقابل 48 مليون شيكل). فمن أين أتت أموال تطوير قطاع الأمن؟ ولماذا لم تتوفر للرعاية الصحية؟

هكذا يتضح أن كل الكلام حول مستشفى خالد الحسن و توسعة رعاية مرضى السرطان غير صادق حسابيًا، وغير ممكن منطقيًا .

لماذا لا يمكن زيادة موازنة التطوير؟

هناك مخدّر يسري في عروق النظام الصحي منذ زمن اسمه التحويلات الطبية، فهي تستهلك مع الرواتب ما يفوق 80% من موازنة وزارة الصحة، وهو أمر غير منطقي، فكيف تدفع رواتبًا لقطاع من المفترض أنه يغطي غالبية احتياجات الخدمة؟ في حين أنك تدفع مبلغًا يفوق هذه الرواتب لشراء ذات الخدمة من الخارج! فعليًا أنت تدفع ثمن الخدمة مرتين.

تستحوذ المستشفيات الإسرائيلية والأجنبية على ما يزيد عن 20% من إجمالي التحويلات 

مرة أخرى سيبرر البعض ذلك بأن التحويلات الطبية تستهدف شراء خدمة من غير الممكن توفيرها في وزارة الصحة. و هو الأمر غير الصائب حسابيًا، إذ تعد القسطرة القلبية السبب الثاني للتحويلات الطبية بعد تحويلات السرطان. والقسطرة القلبية التي تتم بالغالب في مستشفيات خاصة محلية يمكن أن يتم توطينها داخل وزارة الصحة بأقل التكاليف، بل في غالبية الحالات فإن الطواقم الطبية التي تجري القسطرة في القطاع الخاص تكون من كوادر وزارة الصحة .

حددت وزارة الصحة في خطتها الاستراتيجية أنه بحلول عام 2022 ستكون نسبة المستشفيات المحلية من التحويلات 92% ، وهي لا زالت اليوم فعليًا بعيدة عن هذا الهدف، إذ تستحوذ المستشفيات الإسرائيلية والأجنبية على ما يزيد عن 20% من إجمالي التحويلات.

هناك تضارب شديد في المصالح في هذا الملف. فمن جهة القطاع العام، تخفف التحويلات من العبء و الجهد العاجل المطلوب في التطوير لتوفير الخدمات الصحية، وهي بهذا الأمر تفعل فعل المسكّن الذي يفاقم المشكلة. ومن جهة القطاع الخاص شركاء القرار من مصلحته الترويج للتحويلات بل و زيادتها .

للأسف هناك استراتيجيتان خاطئتان لوزارة الصحة تركتا الأثر العميق على الرعاية الصحية في فلسطين: الأولى تمثلت في منافسةٍ شرسةٍ اتبعتها وزارة الصحة للقطاع  الصحي الأهلي غير الحكومي، ما أدّى إلى تآكل الرعاية المقدمة من مؤسسات رائدة سبقت وجود السلطة الفلسطينية (مثل الإغاثة الطبية و لجان العمل الصحي وغيرهم). والثانية تمثلت في "تلبيس طواقي" الدين الحكومي، فالحكومة الفلسطينية رزحت دهرًا على ظهر مستشفيات القدس حتى قصمته، ثم انتقلت إلى مستشفى النجاح بذات النمط، والآن تحوم حول مجموعة مستشفيات الاستشاري. كل ذلك مدعومًا بطمع أظهره القطاع الخاص في حصة من كعكة الإنفاق الحكومي الذي ما لبث أن تحول لدين قد يقود للإفلاس.

الحكومة رزحت دهرًا على ظهر مستشفيات القدس حتى قصمته، ثم انتقلت إلى مستشفى النجاح بذات النمط، والآن تحوم حول مجموعة مستشفيات الاستشاري

أين تذهب الأموال؟ في الواقع لا تذهب لأي مكان لأنها غير موجودة أصلاً. فنسبة موازنة الصحة من الموازنة العامة 13% فقط خلال النصف الأول من عام 2021 . فيما النمو في موازنة الصحة بقي دون 5% خلال العقد الماضي.

طبعًا تبقى المفارقة المملة في أن موازنة الأمن تستحوذ على ضعف موازنة الرعاية الصحية.

حلول صعبة ومصيرية

أمام هذا الواقع يُمكن القول إن أمام الصحة حلين يُمكن من خلال اتباعها لأحدهما إيجاد حل جذري لهذا الواقع الصعب، وهما حلان مصيريان وقابلان للتحقق رغم صعوبتهما.

الأول: طالما أدمن النظام الصحي فكرة التحويلات، يمكن للوزارة التحول بالكامل إلى هيئة للرعاية الصحية الأولية وشراء الخدمة، وفصل مستشفياتها تحت هيئة منفصلة تنافس القطاع الخاص وتتلقى تمويلاً مشروطًا بعدد المرضى الذين تستقبلهم وتوفر لهم الخدمة. هذه الهيكلية معمولٌ بها في العديد من أنظمة الرعاية الصحية عالميًا، الأمر الذي قد يُلزم جسم المستشفيات العامة بتحديث خدماتها لتتمكن من منافسة القطاع الخاص .

الثاني: زيادة نسبة الصحة في الموازنة العامة لخمس سنوات متتالية، لاستثمارها في التطوير وتوطين أهم الخدمات الصحية التي يتلقاها المريض خارج القطاع العام.

دون ما سبق، ستبقى الدائرة تدور على ما هي عليه: تحويلات متزايدة. التزامات مالية تزيد و لا تنقص. قفزاتٌ تقصم ظهر القطاع الخاص. ديونٌ متضاعفة. تطوير غائب. ثم تحويلات جديدة وضحايا جدد.


اقرأ/ي أيضًا: 

التحويلات الطبية: تجاوزات كبيرة ومحسوبية

دائرة التحويلات الطبية.. انتظار وأخطاء وشكاوى