"جننونا"، بكلمةٍ واحدة لخّص علي دحادحة معاناته مع دائرة شراء الخدمة أو ما تعرف بـ"التحويلات الطبية" في وزارة الصحة. دحادحة أبٌ لثلاثة أطفال مرضى بالسرطان، ويحتاج باستمرار لتغطية نفقات علاجهم في المستشفيات الخاصة.
دائرة شراء الخدمة في وزارة الصحة: مركز صغير لخدمة الجمهور وموظفتان فقط.. الوزارة: الطاقم يتناسب مع عدد المراجعين
داخل مبنى من أربعة طوابق في مدينة البيرة، لا يوجد سوى مركز صغير لخدمة الجمهور شّيَّدَ بدعم أمريكي. لا يوجد في المركز إلا طبيبٌ وموظفتان للتعامل مع كافة الحالات المرضية القادمة من مختلف أرجاء الضفة الغربية، ويستعصي علاجها في المشافي الحكومية، وتحتاج إلى تحويلات للمستشفيات الفلسطينية الخاصة في الضفة والقدس، أو للخارج.
بدا الإعياء واضحًا على دحاحة عندما شارف الدوام الحكومي على الانتهاء، لحظات ويغادر الموظفون وقد لا يستلم التحويلة الطبية. يقول: "دائمًا نفس المعاناة، أنا على هذا الوضع منذ ثلاث سنوات، وفي كل مرة أتعب، لأن النظام المعمول به هنا غلط".
اقرأ/ي أيضًا: نقابة الصيادلة تضبط أسعار الأدوية: مضاربات وأدوية مهربة
دحادحة كان واحدًا من مراجعين التقاهم الترا فلسطين خلال زيارةٍ أجراها لمركز خدمات الجمهور في دائرة شراء الخدمة، سجل فيها شهاداتهم وملاحظاتٍ ميدانيةٍ أخرى، بعد تواتر شكاوى على صفحات التواصل الاجتماعي تتعلق بالمماطلة في إصدار التحويلات، وضعف الخدمة، وأخطاء بعد الإصدار، وتضييع للوقت، وسوءٍ في التعامل.
خلال الزيارة، كنا شاهدين على مشادة كلامية وقعت بين أحد المراجعين وموظفين في الدائرة، فقد خلالها المراجع زمام أعصابه بعد أن تنقل مرارًا بين مجمع فلسطين الطبي ودائرة شراء الخدمة للحصول على تحويلة علاج لطفله، لكن دون جدوى، في ظل تضارب الردود من الطرفين.
يُعلق مدير دائرة شراء الخدمة هيثم الهدرة بالقول إن الصراخ يحدث عندما تكون التحويلة مرفوضة بسبب وقف العلاج في المستشفيات الإسرائيلية، "ولكن الكل يريدون العلاج في الداخل، ونحن لا نريده طالما العلاج متوفرٌ لدينا" حسب قوله.
وأضاف أن التحويلات تصل إلى المستشفيات الحكومية في مناطق المرضى، أو من خلال أي رقم فاكس، "لكن هناك ثقافة عند الناس بانتظار التحويلة حتى إصدارها، ولا نستطيع طردهم لأن أبواب الدائرة مفتوحة".
وزارة الصحة: التحويلات تصل للمستشفيات الحكومية أو من خلال رقم فاكس، لكن هناك ثقافة عند الناس بانتظار التحويلة حتى إصدارها
ويرى الهدرة، أن الطاقم العامل في دائرة شراء الخدمة يكفي لتغطية الاحتياجات اللازمة، "لأن عدد المراجعين يوميًا لا يتجاوز 20 مراجعًا فقط" كما قال.
وأكد أن أقرب طريق للحصول على تحويلة التوجه للمتسشفى الحكومي القريب منه، وليس إلى الدائرة هنا، لأنه في كل مستشفى حكومي توجد دائرة تحويلات.
انتظار وانتظار ثم خطأ في التحويلة
خرج الشاب فادي عبد العزيز من مدينة جنين مع ساعات الفجر الأولى (5:30)، فهو يحتاج لتغطية جلسة علاج كيماوي لشقيقته رؤيا (5 سنوات) المصابة بالسرطان، ولكن ما جرى أنه حصل على تحويلة خاطئة، بالرغم من توضيح ما يحتاج له.
اكتشف عبد العزيز الخلل في التحويلة عندما قارنها بتحويلة سابقة، وعندما أبلغهم بذلك طلبوا منه الانتظار، حتى صارت الساعة تُشير إلى الثانية بعد الظهر.
يتابع عبد العزيز، أنه في الشهر الماضي حصل الخطأ نفسه، وحينها لم يكتشف الخلل وتوجه مع شقيقته للمستشفى، وأبلغوه أن التحويلة التي بحوزته لا تكفي للعلاج المطلوب، فعاد إلى المنزل وتأخرت جلسة الكيماوي على رؤيا مدة أسبوع.
خطأ في إصدار تحويلة لا تغطي كل تكاليف العلاج يتكرر أكثر من مرة ويؤجل جرعة طفلة مريضة بالسرطان
بعد هذا الموقف، صار عبد العزيز يدقق في التحويلة تحسبًا لتكرار الخطأ الذي يتكرر فعلاً، مؤكدًا "في كل مرة أحضر إلى هنا أعاني، وأتعطل عن العمل، وهذه المرة الثالثة التي يجري فيها نفس الخلل، واضطر للبقاء حتى تعديله".
يُعلل الهدرة هذه الأخطاء بما أسماه قرار "الانفكاك الطبي"، ويقول: "بعد القرار يتم التحويل لعيادة خارجية وطلب تقرير طبي، حيث لا يلتزم الجانب الإسرائيلي بتقديم تقارير المرضى، لذلك يُعطى المريض تحويلة عيادة وهناك يحصل على تقرير طبي حول الإجراء ونوع العلاج واسم الدواء وجلسة الكيماوي".
16 يومًا لإصدار تحويلة مستحقة!
الثلاثيني أحمد يوسف، تقدم يوم الأربعاء 30 تشرين الأول/أكتوبر بطلب تحويلة إلى مستشفى المطلع في القدس من خلال رئيس قسم الدم والأورام في مجمع فلسطين الطبي، لكن إصدار التحويلة استغرق 16 يومًا، وهو وقتٌ يراه يوسف "طويلاً دون أي مبرر"، خاصة أنه خلال رحلته العلاجية سابقًا من السرطان، كانت التحويلات إلى المستشفيات الإسرائيلية لا تستغرق أكثر من أسبوع.
ويُضيف، أنه توجه يوم الخميس 7 تشرين ثاني/نوفمبر الجاري لاستلام التحويلة، بناءً على الموعد الذي حدده له قسم التحويلات في مستشفى رام الله، لكنه فوجئ بأن اللجنة الطبية انعقدت في اليوم السابق ولم تتخذ قرارها بخصوصه، حسب ما أبلغه الموظفون هناك، وعند توجهه إلى دائرة شراء الخدمة بالوزارة أبلغوه أن التحويلة لم تُوقع من طرف مدير المستشفى، ولم تصلهم.
تضارب في المعلومات التي تقدم للمرضى بين "تحويلات" الوزارة و"تحويلات" مجمع فلسطين الطبي
عاد يوسف إلى المستشفى للسؤال عن التحويلة، فنفى مكتب المدير أحمد البيتاوي ادعاء قسم التحويلات. إثر ذلك عاد يوسف إلى دائرة شراء الخدمة الذين اعترفوا بوجود التحويلة وأبلغوه أن بإمكانه استلامها يوم الأحد بتاريخ 10 تشرين ثاني/نوفمبر.
اقرأ/ي أيضًا: منشطات جنسية قاتلة تباع سرًا في الضفة
وتابع، "منذ يوم الأحد (10 نوفمبر) وحتى يوم الخميس الذي تلاه وقسم التحويلات يقولون إن التحويلة بحاجة فقط للطباعة والتوقيع النهائي، وسيتم إصدارها اليوم. وهذا اليوم والتوقيع استغرقا خمسة أيام".
هذا التأخير، أجاب عليه الهدرة بأن إصدار التحويلة يجب أن لا يستغرق أكثر من أسبوع، وإن استغرق أكثر من ذلك فهذا يعني أن التحويلة مرفوضة، رغم أن يوسف أكد أن التحويلة صدرت بالفعل ولم تكن مرفوضة.
تجارب مريرة لمفيد النادي
مفيد النادي من مخيم بلاطة نهش مرض السرطان جسده فصار نحيلاً، بدأ حديثه معنا قائلاً: "نعاني في التحويلات بشكل مبالغ فيه".
لخص النادي معاناته بعدة نقاط حين قال أولاً، إنه لا يوجد لديه قريب يأتي للمراجعة، ويجب أن يحضر بنفسه كل شهر، متسائلاً: "أنا مريض لماذا أتي إلى هنا كي أحصل على تحويلة؟ لماذا لا يكون اتصال مباشر بين الصحة والمستشفيات دون دخولي في هذه المتاهة؟".
ثانيًا، أنه جاء لأجل تحويلة شراء دواء، ولكن ما يجري هو الحصول على تحويلة دخول للمستشفى، وهو خطأ متكرر مع الكثير من المرضى، ما يجبره على العودة لتصحيح الخطأ في التحويلة.
ثالثًا، المماطلة، "ففي كل مرة يجب أن يستغرق الأمر يومًا كاملًا، تارة انتظر الموظف، وتارة انتظر الطبيب الذي يحضر عند الساعة 10، وتارة تعطّل "السيستم" وتارة الورقة في الطباعة" وفق قوله.
أحد مراجعي الدائرة: "إذا تحسن المرض بنسبة 1%، بعد المماطلة والإجراءات للحصول على التحويلة يرجع للمربع الأول".
وبحسرة أضاف، "أنا مريض وأحتاج للذهاب للحمام باستمرار، فلماذا أبقى كل هذا الوقت هنا.. اتقوا الله.. أقسم بالله بتمنى الموت".
وتابع، "إذا تحسن المرض بنسبة 1%، بعد المماطلة والإجراءات للحصول على التحويلة يرجع للمربع الأول".
وأشار النادي إلى أن وزارة الصحة تتكفل بالعلاج ولا تتكفل بالدواء، والدواء الذي يُكتب في المستشفيات الإسرائيلية غير متوفر في الضفة، وتساءل: ""من أين لي أن اشتري مسكن ألم ثمنه 500 شيقل ولا يوجد لدي دخل؟". هذا عدا عن تكاليف الذهاب إلى مستشفى هداسا للحصول على العلاج هناك، التي تُغطيها التحويلات.
يصف الهدرة هذه الانتقادات بأنها "سوء فهم يحدث بسبب اعتراض المواطنين"، مضيفًا، "هناك تعليمات وأنظمة وقوانين تُتبع بعيدًا عن الأهواء".
مركز يتيم وخدمة ضعيفة
الحاج عبد الرؤوف صلاح اضطر للحضور من عزبة آدم النائية في محافظة سلفيت إلى البيرة، كما فعل فادي عبد العزيز القادم من جنين. قال صلاح، إنه وصل لدائرة شراء الخدمة عند الساعة 11 صباحًا، واضطر للبقاء حتى الساعة 2:30 بعد الظهر من أجل التوقيع على معاملة التحويلة.
وأشار إلى أن الطبيب الذي يستقبل المعاملات غادر لأكثر من ساعة ونصف ولا يدري إلى أين، وأعداد المراجعين في ارتفاع مستمر. هذا الموقف لا يحدث مرة واحدة كما أفادنا به شهود عيان، فالموظفون اعتادوا الغياب وقتًا طويلاً يزيد عن الساعة تاركين المراجعين وحدهم، وعند سؤالنا عن الموظف، أجاب المراجعون: "قال لنا إنه رايح يجيب المعاملات من جوا".
وبالعودة إلى علي دحادحة، يقول إن الطبيب المسؤول عن توقيع التحويلات وصل اليوم إلى المكتب عند الساعة 10 صباحًا وليس الساعة 8 مثل بقية الموظفين، مؤكدًا أن هذا ما يجري في كل يوم.
اقرأ/ي أيضًا: النايس جاي تغزو القدس "ببلاش" وبغطاء إسرائيلي
يشير بأصبعه قائلاً: "هنا قسم الاستقبال، وفي الغرفة الأخرى الأرشيف، إذن لماذا يتأخر إحضار الملف ساعة كاملة بالرغم أن المسافة 6 أمتار؟".
وتابع متذمرًا "وبعد إحضار الملف، تحتاج إلى ساعة أخرى حتى يراه الدكتور، وبعدها ساعتين حتى تأخذ التحويلة".
يروي دحادحة أنه في إحدى المرات كان هناك خطأ في تحويلةٍ بسبب عمل نسخة طبق الأصل عن تحويلة قديمة، واحتاج الأمر لأربعة أيام حتى تصويب الخطأ.
خطأ في تحويلةٍ بسبب عمل نسخة طبق الأصل عن تحويلة قديمة، واحتاج الأمر لأربعةأيام حتى تصويب الخطأ
في المقابل، يُبين الهدرة أن الطبيب يحضر إلى الوزارة عند الساعة الثامنة صباحًا، لكنه ينتظر سحب الملفات من الأرشيف وفي هذه الفترة يُناقش الملفات معه، خاصة المتعلقة بالمستشفيات الإسرائيلية، لمتابعة العلاج وليس تحويل حالات جديدة.
وأشار إلى أن فاتورة المستشفيات الإسرائيلية بعد "الانفكاك" انخفضت من 38 مليون شيكل شهريًا إلى 13 مليون شيكل، مبينًا أن 450 مريضًا يتلقون العلاج حاليًا في هذه المستشفيات، من أصل 1800 مريض قبل "الانفكاك".
يشكو مراجعون أيضا من جواب موظفة الاستقبال المتكرر على أسئلتهم بأن هناك خللًا في نظام الحاسوب وأن "السيستم معطل"، في حين يقول الهدرة، إن هذا العُطل حدث مرتين فقط في شهر أيار/مايو الماضي، بسبب التحميل الزائد على البرنامج، وتم حل المشكلة بإيجاد خط انترنت خاص بالدائرة منفصل عن بقية الوزارة.
في المقابل كانت شكوى المواطن في المشادة التي حصلت خلال وجودنا في دائرة التحويلات بتاريخ 13 تشرين ثاني/نوفمبر الجاري تتعلق بعطل في السيستم.
يسخر الحاج صلاح من يافطة موجودة داخل مركز خدمات الجمهور حول سبل الوقاية من ضغط الدم قائلاً: "توجد بالداخل يافطة لتعليمات تجنب ضغط الدم، منها تجنب الاضرابات النفسية، إلا أن ما يجري هنا هو ما يسبب الاضطراب النفسي".
اقرأ/ي أيضًا:
غزة: أدوية وزارة الصحة مفقودة في مستودعاتها وللبيع في صيدليات خاصة