20-سبتمبر-2018

شهدت السنوات الأخيرة توسّعًا في شراسة السياسية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في المنطقة المصنفة "ج" بحسب اتفاقات أوسلو. وكذلك اكتشفت السلطة الفلسطينية في الآونة الأخيرة الأهمية الإستراتيجية لهذه المنطقة كجزء من الدولة الفلسطينية المستقبلية التي تروّج لها، وبرزت هذه الأهمية مع خطة "إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة" التي أقرتها الحكومة الـ13 برئاسة سلام فياض في آب/ أغسطس 2008، واستمرت مع كل خطة تنموية يقدّمها مجلس الوزراء الفلسطيني حتى يومنا هذا.

  يحتاج الفلسطينييون في الخان الأحمر ومناطق "ج" إلى وقفةٍ فلسطينية جادة، وليس موقفًا موسميًا يظهر عند انسداد الأفق السياسي   

اعتمدت الشراسة الإسرائيلية منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 على سياسة استعمارية، يتمثل عنصرها الرئيس في إعلان وتسجيل الأراضي الشاسعة على أنها "أراضي دولة"، إضافةً إلى؛ السيطرة على الأرض العربية لتأمين الاحتياجات العسكرية، والسيطرة على الأرض المتروكة من قبل سكانها الأصليين، ومصادرة الأرض العربية لتأمين الاحتياجات العامة الإسرائيلية.

بينما استند الاكتشاف الفلسطيني المتأخر للمنطقة "ج" منذ عام 2008 على افتراضٍ مفاده؛ أن هذه المنطقة تعتبر "مفتاح التنمية الاقتصادية الفلسطينية"، بصفتها المكان الذي يوجد فيه أغلبية الموارد الطبيعية في الضفة الغربية. ولهذا اعتقدت السلطة الفلسطينية أنّ تخفيف القيود الإسرائيلية دون إلغائها من شأنه جلب منافع كبيرة للاقتصاد الفلسطيني وتحسين آفاق النمو المستدام وزيادة الناتج المحلي الإجمالي. وهذا يعني توجّه السلطة الفلسطينية لبناء رواية اقتصادية يمكن استغلالها في العمل على إنهاء الاحتلال، على أن لا يتعارض الرخاء الاقتصادي الفلسطيني في المنطقة "ج" مع أمن إسرائيل، والأمن هنا؛ يشكل عمق نموذج الحكم الاستعماري في هذه المنطقة.

   بات النموذج الفلسطيني الاقتصادي أكثر اتساقًا مع نموذج الاستعمار الإسرائيلي في منطقة "ج"   

في الحصيلة، بات النموذج الفلسطيني الاقتصادي أكثر اتساقًا مع نموذج الاستعمار الإسرائيلي في منطقة "ج" والقائم على أساس؛ مصادرة الأرض، وبناء المستوطنات، واستغلال الموارد الطبيعية، ومنع تطور القرى الفلسطينية، وهدم التجمعات البدوية، وفرض القيود على التنقل والوصول، وتهجير السكان الأصليين. وبمعنى آخر، فإن الاكتشاف الفلسطيني للمنطقة "ج" لا يعدّ نموذجًا تسعى من خلاله السلطة لمواجهة السياسة الإسرائيلية، إنما هو مخرجٌ لها للهرب من التعقيدات الاقتصادية التي تواجهها في بناء اقتصاد فلسطيني وطني ضمن الجزر المعزولة في منطقة "أ" و"ب".

لطالما اعتُبر طرد وإلغاء وجود السكان الأصليين الفلسطينيين، ومنع تطورهم، ودفعهم إلى مغادرة أرضهم، ومنعهم من العودة إلى ديارهم منذ عام 1948، المشوّه الرئيس لحق الفلسطينيين بالحياة والبقاء على أرضهم، إلا أن ذلك لا ينفي تورط منظمة التحرير ووريثتها السلطة الفلسطينية منذ عام 1994 من لعب دورٍ مساندٍ لهذا التشويه، بتوقيعها اتفاقاتٍ مع إسرائيل. فوفقًا لاتفاق أوسلو الثاني الموقع بين منظمة التحرير وإسرائيل عام 1995، تم تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاثة أشكال من الحكم؛ منطقة "أ" و"ب" وهي مجموعة من المعازل أو الجزر المنتشرة في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية يسكنها فلسطينييون وتحكمها السلطة الفلسطينية شكليًا. ومنطقة "ج" وهي منطقة جغرافية متصلة تُشكل ما نسبته أكثر من 60 في المئة من إجمالي مساحة الضفة الغربية، وقد حافظت إسرائيل عليها لتبقى تحت سيطرتها بحجة ضمان أمنها وأمن الضفة الغربية، وذلك قبل أن تضع سياسة لتشجيع البناء الاستيطاني المدني والزراعي والسياحي، بهدف الاستثمار الاقتصادي، مع عدم إغفال تحقيق الأمن.

   الاكتشاف الفلسطيني للمنطقة "ج" لا يعدّ نموذجًا تسعى من خلاله السلطة لمواجهة السياسة الإسرائيلية، إنما هو مخرجٌ لها للهرب من التعقيدات الاقتصادية   

طيلة ربع القرن الماضي، ظلّ تعزيز صمود الفلسطينيين ومقاومتهم في المنطقة "ج" شعارًا تستخدمه السلطة الفلسطينية للحصول على المنح والمساعدات الدولية. فقد اعتمد اهتمام السلطة الفلسطينية بمصير الفلسطينيين في هذه المنطقة على سياسة "المقاومة الموسمية". بحيث أن التدخل الفلسطيني في هذه المنطقة يُصنّف على أنه متأرجح ومتذبذب وموسمي ويعتمد على الدعم والمساعدات الدولية الإغاثية التي تُقدم إليها من قبل المانحين الدوليين.

وعلى عكس ما تدعي السلطة الفلسطينية، بأنها تهدف من خلال سياستها إلى تمكين الفلسطينين في أرضهم، فلم تشهد منطقة "ج" سياسة فلسطينية واضحة أدت إلى تطويرها بصفتها جزءًا من الدولة الفلسطينية التي تروّج لها، وهي التي أقرت ولأول مرة في العام الماضي تخصيص جزء من موازنتها السنوية؛ قرابة عشرة مليون دولار أميركي، لدعم وتحقيق التنمية في هذه المنطقة. ولهذ ظل تدخل السلطة الموسمي للحفاظ على بقاء الفلسطينيين في هذه المنطقة، تدخلًا غير دائم.

   ظلّ تدخل السلطة في مناطق "ج" موسميًا، ومعتمدًا على المانحين الدوليين؛ فلم تشهد المنطقة سياسة واضحة لتطويرها فلسطينيًا   

في المقابل، فإن الصورة ليست سوداوية بهذا الشكل، إذ يحافظ الفلسطينييون في منطقة "ج" على بقائهم في منطقة تخضع للسيادة الإسرائيلية المباشرة، ولديهم طرق وتكتيكات للبناء والزراعة وتربية الثروة الحيوانية في منطقة غنية بالموارد الطبيعية والأراضي الصالحة للزراعة، وفي أراضٍ تعتبر إسرائيل وجود الفلسطيني فيها غير قانوني وليست من حقهم ولا مخصصةٌ لهم. ولهذا يتمتع الفلسطينيون في هذه المنطقة بوضع صمودٍ خاص؛ يختلف عن الصمود التقليدي الذي برز مع منظمة التحرير في الانتفاضة الأولى، وكذلك يختلف عن الصمود التقليدي في الضفة الغربية وقطاع غزة والأرض المحتلة عام 1948، فهم يتمتعون إلى حد بعيد بدرجة كبيرة من القدرة الهائلة على التنظيم والتعبئة والنسيج الاجتماعي المتماسك.

ما يطلبه أكثر من 400 فلسطيني يسكنون في منطقة الخان الأحمر القريبة من القدس لا يختلف عمّا يطلبه الفلسطينييون في باقي منطقة "ج". وهو دعم بقائهم في هذه الأرض، ودعم مقاومتهم لسياسات التهجير القسري والتمييز العنصري الإسرائيلية بحقهم، وليس مقاومة موسمية أو مهرجانية أو فزعة تقتصر على فعالياتٍ محدودةٍ هنا وهنا. ولهذا فإن ربط السلطة الفلسطينية لنضال الفلسطينيين من أجل البقاء في الخان الأحمر بسياسة التدخل الموسمي من خلال تقديم المساعدات الإغاثية أو تعبئة الناس للرد على فوضى السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية؛ وهذا نفس ما حصل عام 2014 عند رفض مقترحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري حول سيادة إسرائيل على الأغوار، يصبح مصدرًا لصمودٍ مضاد، فالتدخل الموسمي غيرُ قادرٍ على الوقوف أمام سياسة استعمارية توسعية وممنهجة. وبمعنى آخر، فإن ربط نضال الفلسطينيين للبقاء في أرضهم بمواجهةٍ موسمية تقوم بها السلطة الفلسطينية بهدف البحث عن مخرج لأزماتها، يقودنا كفلسطينيين إلى تعميق الأزمة.

   التدخل الموسمي غيرُ قادرٍ على الوقوف أمام سياسة استعمارية توسعية وممنهجة    

يحتاج الفلسطينييون في الخان الأحمر إلى وقفةٍ فلسطينية جادة، وليس موقفًا موسميًا يظهر عند انسداد الأفق السياسي. ولهذا، لا يمكننا اعتبار السياسة الفلسطينية اليوم في الخان الأحمر هدفًا ينشده سكان أهالي المنطقة، ولكنّه فرصة جديدة حصلوا عليها لا لتحدي السياسية الإسرائيلية فحسب، بل لتحدي السياسية الفلسطينية من خلال إعادة فرض أنفسهم كفلسطينيين، لهم الحق بالحياة والبقاء على أرضهم.


اقرأ/ي أيضًا:

أشرف مروان في "أرشيف دولة إسرائيل"!

الخروج من السفارة أو الموت: آخر وقائع "اغتيال" عمر النايف

الفلسطينيون على “Netflix

مستوطنون زبائن في ورشات ومتاجر فلسطينية