09-سبتمبر-2017

"نحن لا نتطرق بتاتًا إلى القضايا السياسية. هم يعلمون أننا أصحاب حق، ويأتون إلى مناطقنا ﻷنهم بحاجة إلينا، والمصلحة التجارية وكسب الرزق هما أساس التعامل معهم فقط لا غير". هكذا أجاب الميكانيكي (م.ق) على تساؤلنا عن تعاطيه مع مستوطنين يرتادون ورشته في حوارة جنوب نابلس لصيانة سياراتهم، وقد رفض التصريح عن هويته رغم أنه دافع عن موقفه وبدا مقتنعًا به، ولم يذهب به بعيدًا عن ما قاله آخرون أمثاله، فيما امتنع كثيرون عن الحديث في الأمر.

يحدث هذا في قرى وبلدات فلسطينية تقع بالقرب من مدن فلسطينية احتُلّت عام 1948، أو تُقام بالقرب منها مستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية. ولا يبدو مستهجنًا في هذه المناطق، ولا حتى غريبًا، مشهد المستوطن بقبعته الصغيرة على رأسه، أو حتى الحريديم بقبعته السوداء الكبيرة وسوالفه، وهو يصلح سيارته في ورشة لصيانة السيارات يملكها فلسطيني من سكان هذه القرى، أو يتجول بين المحلات التجارية، ثم يدخل أحدها، ويحاور التاجر صاحب المحل باللغة العبرية، وهي اللغة ذاتها التي كُتبت بها اللافتة الخاصة بالمحل أيضًا.

قرى فلسطينية في الضفة الغربية تشهد إقبالاً من المستوطنين على زيارة محلاتها التجارية، وصيانة سياراتهم في ورشات صيانة داخلها

"ألترا فلسطين" تابع هذه الحالات في قريتي النبي إلياس والفندق في قلقيلية، وفي نعلين غرب رام الله، وحوارة جنوب نابلس، والعيزرية وحزما قضاء القدس. يعرف التجار أن انخفاض الأسعار بشكل كبير في المحلات الفلسطينية، مقارنة بالمحلات التجارية داخل المستوطنات أو في مدن الخط الأخضر، هو السبب الأساسي في إقبال المستوطنين على الشراء من المحلات التجارية، خاصة أن هذه المحلات لم تتوقف عن بيع البضاعة الإسرائيلية، ما يعني أن المستوطن سيجد طلبه بسعر أقل مما يدفعه في المدينة أو المستوطنة اللتين يستوطن بهما.

اقرأ/ي أيضًا: جنود إسرائيليون بالزي المدني في روابي

ويبدو لافتًا أيضًا إقبال المستوطنين على التعامل مع محلات صيانة السيارات، ومحلات بيع مواد البناء أيضًا، إضافة لارتيادهم مناطق معينة في بعض القرى، مثل منطقة مصانع الحلاوة والطحينية في حوارة، والمطاعم وورش الصيانة وغسيل السيارات في منطقة المهلل في نعلين. ووقفة ﻷقل من ساعة أمام المحلات في تلك المناطق، ستجعلك تلاحظ أن المستوطن حين يأتي إلى محل ما لتصليح سيارته قد يمل الانتظار، فيتجول بحثًا عن محلات يشتري منها طعامًا وحاجيات أخرى.

وسبق أن نشرت صحيفة "يروشلايم" العبرية تقريرًا تحت عنوان "مشروب في بيت جالا وسباحة وسط رام الله"، تحدثت فيه عن "زيارة" إسرائيليين إلى مناطق مصنّفة (أ) بالضفة الغربية، لقضاء أوقات ممتعة في الحانات والبرك.

وقالت الصحيفة، إن عددًا من الإسرائيليين يختارون "قضاء أوقات ممتعة في مناطق السلطة الفلسطينية في حانات وبرك رام الله، ونوادي الجاز في بيت جالا".

ويصف محمود نواجعة المنسق العام لحركة مقاطعة إسرائيل (BDS) في فلسطين هذا التعاون بين الجانبين بأنه "جزء من التطبيع الاقتصادي"، وأن المطلوب هو المقاطعة الاقتصادية الكاملة، معتبرًا أن هذه العلاقات جزء من التخريب على نضال الشعب الفلسطيني وحركة المقاطعة.

(BDS) في فلسطين غير قادرة على الوصول إلى التجار الذين يتعاطون مع المستوطنين، وإن فعلت ذلك فسيكون في مرحلة متقدمة لاحقًا

وردًا على سؤالنا له حول دور حركة المقاطعة لإنهاء هذه الحالة أو منع انتشارها على الأقل، قال نواجعة، إن الحركة لم تصل بعد لمرحلة التأثير على السوق الفلسطيني الأساسي، البعيد عن مناطق الاحتكاك، وإلزامه بمقاطعة المستوطنات والمنتجات الإسرائيلية، ما يجعل الوصول لهذه المناطق التي تُصنف أغلبها مناطق (ج) أمرًا صعبًا حاليًا، خاصة أنها تعتبر التعامل مع المستوطنين مصدر رزق.

ويعرب عن أمله في أن تنجح حركة المقاطعة في التأثير على هذه الفئات، لكنه أشار إلى أن دورها في هذا الجانب قد يأتي في مرحلة متقدمة لاحقًا.

رندا عودة من حوارة، عبرت عن استيائها الشديد إزاء ما يحصل في بلدتها. قالت: "بصراحة هذه القضية تشكل إحراجًا لنا أمام البلدات اﻷخرى، وحبذا لو ينتهي التعامل مع المستوطنين إلى اﻷبد، مؤسف أن أرى تاجرًا يتعامل مع عدوه كزبون، فيما هذا العدو قد يؤذي أي أحدٍ من أهل بلدته في أي لحظة".

وتابعت حديثها، "اﻷمر هنا لا يقتصر على التعامل مع المستوطنين، بل إننا نرى الجنود ينزلون من الجيبات العسكرية ويشترون من المحلات. كفانا حججًا واهية؛ فإن كان التجار سيتذرعون باﻷمر الواقع، فالظاهرة يمكن التخلص منها والابتعاد عنها كذلك، أما إن كان الرزق ذريعة فالرزق من عند الله وحده".

أما آية عماد من نعلين، فلا ترى في هذا التواصل أمرًا مقلقًا، فهو، كما تقول، "يقتصر على الغرض التجاري"، مضيفة، أن دخول المستوطنين إلى نعلين يزعج أصحاب المهن والتجار اليهود لأنه يضعف التسوق لديهم، وأن جيش الاحتلال يحاول منع المستوطنين من الدخول للبلدة.

وترى آية، أن هذا التعامل بين الطرفين "لا ينتقص من الانتماء الوطني لأهالي نعلين، فنعلين تشهد اشتباكات بشكل مستمر وقدمت شهداء كثر، ويوجد عدد كبير من أبنائها داخل السجون اﻹسرائيلية".

أما أحمد جابر من العيزرية، فأفصح عن رفضه التام لدخول المستوطنين إلى بلدته، يقول: "لا مجال للتعايش بيننا، هم احتلال ولا تطبيع بيننا أو تعايش، ولا حتى أمر واقع، لا أحد ينكر أن وجود الاحتلال واقعٌ ولكن يجب علينا أن لا نتعايش معه على أنه طبيعي، هو واقع ولكن ليس طبيعيًا وسيزول".

يبرر تجار وحرفيون تعاطيهم مع المستوطنين بالبحث عن رزقهم، ويؤكدون أنهم لا يفتحون أي حديث في السياسة

ويحذر  بلال الشوبكي المحاضر في قسم العلوم السياسية بجامعة الخليل، من أن هذه الحالة ليست استثناءً في قرى محدودة، وأن هناك "محاولة غير موفقة" لتقديمها على هذا النحو، مضيفًا، أن عدم حصولها في مناطق أخرى غير المذكورة سابقًا يرجع لمانع موضوعي وليس ذاتي، وفق قوله.

اقرأ/ي أيضًا: إسرائيليون في متحف محمود درويش برام الله

ويضيف الشوبكي لـ"ألترا فلسطين"، أنه في حال افتتاح "مصالح اقتصادية مشتركة"، أو إيجاد "ترتيبات أمنية مريحة" وفق تعبيره، فإننا سنشاهد اتساعًا في رقعة التعامل بين تجار أو أصحاب ورشات ومستوطنين.

ويوضح الشوبكي، أن "مسألة دخول المستوطن إلى المحال التجارية أو حتى البيوت تعود أساسًا إلى تعريف الاحتلال الإسرائيلي في الذهنية الفلسطينية كعسكر، بحيث لا يشعر الفلسطيني بوجود الاحتلال إلّا إذا تمثّل الأخير في صورة جندي أو دبابة أو طائرة، بل وصل الأمر إلى أنّ الإحساس بالاحتلال مرتبط بممارسة العسكريّ لفعل عدائي مباشر، فيما وجوده لا يثير اهتمام الشريحة الأوسع من الفلسطينيين".

وتبدو أقوال الشوبكي دقيقة عندما نتذكر قبول نشطاء وتجار وأشخاصًا عاديين، وعائلات أسرى أو شهداء أحيانًا، لإجراء مقابلات مع صحافيين إسرائيليين، في سياق تقارير تُعدُّ لقنوات إسرائيلية تنشط في التحريض على الفلسطينيين والمقاومة، بل وكثيرًا ما تتضمن التقارير التي تُجرى لها هذه المقابلات تحريضًا مباشرًا على الفلسطينيين.

ويدفعنا هذا الحال إلى التساؤل عن سبب التراخي في التعامل مع المحتل، ومنذ متى بدأ ذلك يحدث. يجيبنا الشوبكي مبينًا، أن الاتصال بالإسرائيلي في سياق مدني أمر مستساغ بين الفلسطينيين، وهو فهم مرتبطٌ بحقبة ما بعد أوسلو؛ التي حوّلت الاحتلال إلى خصم نحتاج إلى تسوية بعض الملفات معه دون الشعور بالتناقض التام معه، مضيفًا، أنه في فقدان التناقض مع الاحتلال قبول بالتواصل.

أوسلو جعلت صورة الاحتلال في ذهن الفلسطيني تقتصر على الجندي الذي يحمل سلاحًا ويركب دبابة أو طائرة ويرتكب اعتداءات

ويضيف، "ليس متوقعًا من عموم الفلسطينيين أن يجروا أبحاثًا حول مخاطر التواصل مع الاحتلال كبنية مدنية على الهوية الوطنية، بيد أنّه من المفترض بل الواجب على النخب السياسية والحركات التحررية أن تُعيد تعريف الاحتلال الإسرائيلي بما هو وجود مجتمعي بقطاعاته كلّها، ومقاومة تعني أن يكون المجتمع الفلسطيني ندًا لإفراز الاحتلال الاستعماري".

ولم تتحدث أيٌ من الفصائل الفلسطينية عن هذه الظاهرة، كما امتنعت جميعها عن أداء أي دور توعوي فعلي لمنع استسهال هذه التعاطي مع الاحتلال.

يُشار إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي بدأت منذ سنوات بتفعيل التواصل المباشر مع الفلسطينيين، دون وساطة من السلطة الفلسطينية، وقد بدا ذلك واضحًا في إتاحة منح التصاريح من مكاتب تابعة لجيش الاحتلال وما تسمى "الإدارة المدنية"، دون الحاجة لتقديمها من خلال الارتباط الفلسطيني، بل وتكون الإجراءات عند تقديمها مباشرة أسهل ومدة الاستجابة للطلبات أقصر، هذا إضافة لتنشيط صفحات باللغة العربية على مواقع التواصل، لعل أبرزها وأشهرها صفحة "المنسق" التي تلقى تفاعلاً من قبل فلسطينيين، وهذا ما تناوله "ألترا فلسطين" في تقرير سابق.


اقرأ/ي أيضًا: 

فلسطينيون ينعون ناشطًا إسرائيليًا.. لماذا؟ 

صفحة المنسق: مؤشر عودة الإدارة المدنية للضفة وغزة؟ 

إسرائيليون يفضحون جرائم جيشهم.. ماذا خلف ذلك؟