03-أغسطس-2019

بين من راح يشتم اليوم ويمجد الزمن الماضي، قبل بضع سنواتٍ فقط، وبين من ترحم بالجملة المشهورة "ساق الله" أو بكلمات الأغنية "ع الله تعود"، ومن دعا الله رجوع هؤلاء الذين رأى فيهم "قلة"، إلى ميادين المدن، ومن اكتفى بالضحك دون أن يعلل ذلك، ومن وصفه بصفات البطولة، ظلت صورة المحارب الذي يجري حاملاً الكلاشينكوف ويدير ظهره وسط رام الله، صورة تتعطش إليها الأيادي التي ضغطت على الزناد يومًا أمام دبابة، أو على شارع استيطاني لتقتنص صدر مستوطن، تتعطش إليها عدسات المصورين، وقلوب أمهات الشهداء، وجيل الأطفال الذي ولد بعد عام 2000.

لم يعد أحدٌ يتخطى حدوده اليوم! التزمت البنادق، أو مشت بخط سير أعوج

المحارب الذي لم يُعرف عنه أحد، وربما لم يعرفه أحد، بالإمكان التعريف به بأنه محارب من "زمن الثورة"، زمن نصب الكمائن وعبور السلك الشائك وتخطي الحدود والرد.

اقرأ/ي أيضًا: أحمد جرار.. "هبّت روايح الجنة"

لم يعد أحدٌ يتخطى حدوده اليوم! التزمت البنادق، أو مشت بخط سير أعوج. حولت طريقها إلى السماء والنزاعات الداخلية وحفلات التخرج والزواج والعربدات. فقط خرج عن درب المرحلة حفنة رصاص من بنادق ذاتية الصنع، أو بنادق أُخرجت من مخبئ قديم، لتُذكّر الناس أن الطريق إلى الوطن غير تلك التي تُرسَمُ حدودها منذ عدة سنوات إلى اليوم وغدًا.

في البال شهوة لتلك الأخبار المزلزلة، لنبأ عاجل يفيد بوقوع عمليةٍ استشهاديةٍ أو استهداف حافلةٍ للمستوطنين أو اقتحام مستوطنة. لانفجار عبوةٍ ناسفة أو إلقاء قنبلةٍ يدويةٍ أو حتى كوع محلي الصنع.

سكتت تلك السنوات (من نهاية عام 2000 وحتى تقريبًا عام 2005)، وسكتت معها أخبار الثورة، اغتيال، محاصرة، اشتباك مسلح، تفجير، إطلاق نار، استهداف، اجتياح... لكن أفرادًا وحيدين حاولوا إعادة المشهد، وتعليق البندقية في مكانها الصحيح، على الكتف بين الأشجار، على زجاجٍ مفتوح لسيارة مسرعة، من نافذة بيت قديم ومهجور، وكان منهم: محمد عاصي (فجر 22-10-2013) في كهفٍ بين كفر نعمة وبلعين غرب رام الله، معتز وشحة (ظهر 27-2-2014) في بيرزيت، محمد الفقيه (فجر 27-7-2016) في صوريف شمال غرب الخليل، باسل الأعرج (صباح 6-3-2017) في مدينة البيرة، أحمد نصر جرار (6-2-2018) بلدة اليامون غرب جنين، صالح البرغوثي (من كوبر استشهد في سردا ليلة 12-12-2019) أشرف نعالوة (من طولكرم استشهد في مخيم عسكر فجر 13-12-2018)، عمر أبو ليلى (من الزاوية استشهد في عبوين ليلة 19-3-2019). هؤلاء الكوكبة من المشتبكين أعادوا للرصاص هيبته وعدلوا اعوجاج طريق البندقية.

وكانوا جميعًا وإن اختلفت الأسماء وأماكن الولادة والسكن والاستشهاد وطريقة الاشتباك، كانوا جميعًا ذلك المحارب المجهول.

المحارب الذي لا أحد يعرفه، لكن الكل يحبه ويتمنى عودته.

يتساءل الفتية الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و16 عامًا، عن تلك الأيام التي كان لدينا فيها محاربين يطلقون الرصاص على الزجاج الأمامي لسيارات المستوطنين، ويفجرون العبوات الناسفة بدوريات الاحتلال العسكرية، عن تلك الأجساد التي تطايرت في حافلات الإيجد والمطاعم والأسواق، آخذةً حقَّنا، حينها كنا نشعر حقًا أن هناك من يدافع عنا ويرد كيد المعتدين.

"إرجع" هي الكلمة الأكثر تعليقًا ورواجًا على صورة المحارب الذي يمضي نحو اشتباكه، يوم كانت الجيبات تعرف أن أحدًا أو مجموعة ستطلق النار صوبها. اليوم لا مجنزرات في الاقتحامات، فالذي أعطى الأوامر بالاقتحام يعرف أن لا بندقية ستعترض طريق جنوده، دون أن يخلو الأمر من مفاجآتٍ كما حدث في جنين قبل شهرين، حين خرج شابٌ ملثمٌ وأطلق مخزنين من بندقيته الآلية بتوقيت صلاة الفجر في نهايات رمضان، ليتوقف خلالها ملقوا الحجارة عن انتفاضتهم ويأخذون مخابئ سريعة ويبدأون بالتكبير وتشجيع المشتبك على الاستمرار "لا توقف رصاصك.. اشتقنا.. والله اشتقنا".


اقرأ/ي أيضًا: 

مُطاردون سابقون يحكون عن التخفي ومراوغة الاحتلال

عدنان الغول.. نصف المقاومة الفلسطينية

هكذا أتذكر الأستاذ نزيه