06-أبريل-2018

يُدرّس في برنامج الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة بجامعة بيرزيت، مساق موسوم "القومية العربية وسياسات الهوية"، وهو مساق اختياري يدرس للمرة الثانية في تاريخ البرنامج، وفي هذا الفصل الدراسي الجامعي ربيع 2018 طُرح هذا المساق ولاقى إقبالًا واسعًا من طلبة البرنامج وطلبة من برامج أكاديمية أخرى في الجامعة.

  يتعبر من المساقات الجامعية القليلة والنادرة في فلسطين التي تدرس مثل هذه القضايا، على الرغم من أهميتها وضرورتها المعرفية والسياسية والثقافية والتاريخية 

يُدرس المساق عبد الرحيم الشيخ أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية والعربية في جامعة بيرزيت، الذي قام بهندسة المساق بجدارة وبراعة في اختيار القراءات المركزية النظرية وقراءات رديفة تفصيلية لحالات دراسية معينة تخدم رسالة المساق الأخلاقية والمعرفية. وإلى جانب القراءات النظرية لكل محاضرة طَعَّمَ الشيخ المساق بمنتج قومي بصري أو سمعي يتم نقاشه وسجاله إلى جانب المعارف النظرية الرديفة.

وبرنامج الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة تحتضنه دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في الجامعة منذ أكثر من عقدين من الزمن، وهو برنامج يهتم بتعقب ودراسة ونقد وإنتاج المعرفة المرتبطة بالقضايا العربية المعاصرة من منطلق عربي داخلي، وينشط البرنامج في نقد المعرفة الاستشراقية والمركزوية الأوروبية، وتفكيك الهيمنة المعرفية الغربية البيضاء، إلى جانب تركيز البرنامج على تأسيس مقولات مركزية ونقدية بخصوص القضايا العربية المعاصرة بمنهجيات نقدية وتحررية، وعبر تفكيك هالة المعرفة الاستعمارية والاستشراقية.

يهتم مساق "القومية العربية وسياسات الهوية" بدراسة وتفحّص ونقد وسجال عدد من الموضوعات المركزية المرتبطة بالقومية والهوية، بالتركيز على أشكال التعبير عن الولاء والانتماء في الأقاليم الناطقة بالعربية منذ القرن الثامن عشر في ظل دولة الخلافة الإسلامية، إلى جانب ذلك ينشغل المساق بدراسة أثر ظهور تيارات القومية ودولة القومية في أوروبا، وعلاقتها بالتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية التي انتقلت بالمجتمعات البشرية عبر المراحل الثلاث لدى أرنست غيلنر وهي: المحراث- السيف- القلم، اعتمادًا على المدارس النظرية لموضع وفكرة القومية والهوية.

كما يركّز المساق على دراسة ومناقشة أثر انهيار الدولة العثمانية وتقسّم المنطقة العربية استعماريًا، وأثر ذلك التقسيم الاستعماري على نشوء وتبلور حركات فكرية وسياسية قومية عربية قادت الحركة الانفصالية عن الدولة العثمانية، أو حركات التحرر من الاستعمار نحو إنشاء القطرية العربية كتعبير لفائض القومية على القوم. ويهتم المساق في دراسة وتعقّب أثر الاحتلال الصهيوني في فلسطين على تبلور الهوية العربية للفلسطينين، وعلى فكرة الوحدة كناظم قومي فوق قطري للعرب، ويهتم بمعالجة أثر العولمة والهيمنة وأشكال الاستعمار الجديد على فكرة القومية والهوية.

تتكون البنية الأساسية للمساق من عدد من المحاور المركزية، أهمها: السجالات النظرية والمعرفة للقومية وسياسات الهوية، القومية والأرض أي التصورات الإقليمية للهوية، القومية والناس أي التصورات السياسية للهوية، القومية والحكاية أي التصورات الثقافية للهوية، هوية الثقافة العربية أي توضيح تجاذبات العروبة والإسلام في تشكّل القومية العربية، ومن المحاور الهامّة أيضًا محور الآخر والاختلاف والعداوة ويتناول فيها العربي اليهودي/ العربي المسيحي/ العربي المسلم، وقد أفرد المساق محورًا للهوية الفلسطينية، وآخر "للهوية الصهيوينة" كحركة استعمارية، وفي محور أخير يهتم المساق في موضوع القومية الافتراضية والمواطنة الكولونيالية.

يركّز المساق على ربط المعرفة النظرية بالمعرفة العملية التطبيقية، وكأحد متطلبات المساق الأساسية كُلّف طلبة المساق بعمل مشروعهم البحثي في إطار نقد منتج قومي عربي، وبذلك ينجز الطالب مشروعًا كتابيًا بحثيًا يتعرّف من خلاله على أحدى الحاضنات الدولانية العربية للهوية العربية سواء من ضمن الدولة الأعضاء في الجامعة العربية (22 دولة عربية تتوزع على حاضنات هي: جزية العرب، الهلال الخصيب، شمال أفرقيا والمغرب العربي، القرن الأفريقي)، أو في الشتات العالمي في كل من الحاضنات الدولية (أوروبا، أستراليا، أمريكا الشمالية، وأمريكا الجنوبية)؛ ويهتم العمل التطبيقي بتناول مادة سمعية أو بصرية وفي الغالب فيلم وثائقي أو سينمائي أو منتج قومي آخر، ومن خلاله يتم التعرف على الهوية في ذلك البلد، أو لدى الجاليات في الشتات العالمي؛ ومن خلال العمل التطبيقي تكون مهمة الطالب فحص المكونات للكلاسيكة للهوية (الأرض، الناس، الحكاية)، وفحص أثر التقسيمات الاستعمارية في ظهور دولة القومية أو تفككها مثل حالات العرب في الشتات العالمي، وتبيان أنماط السلطة السياسية وقضايا الحدود والصراعات حولها، وتتبع ماهية البنى الاجتماعية وقضايا الأقليات والجماعات المهمشة، ودراسة سياسات الذاكرة أو النسيان من خلال المنتج القومي وتأثيره على الهوية في ذلك البلد أو لدى الجاليات العربية في الشتات، وعمل تحليل مفصّل للمنتج القومي، والعمل على الخلوص باستنتاجات حول الوطنية وسياسات الهوية في إطار قومي عربي.

أما بخصوص أهم النظريات والمنظرين اللذين يركز عليهم المساق وأستاذه الشيخ فهي كثيرة وعديدة، أهمها: نظرية القومية لدى بندكت أندرسون المتعلقة بالجماعات المتخيّلة وصناعة الهوية والقومية لجماعة متخيلة من خلال التعداد والخريطة والمتحف، والتي يميزها أندرسون عن الانتماء المباشر الوجاهي الذي يولد الإنسان فيه، ونظرية القومية لدى أريك هوبسسباوم التي تجادل بأن الأمم مصنوعة وليست مخلوقة؛ أي أن القومية والهوية هي عملية هندسة اجتماعية وسياسية وثقافية، ونظرية القومية لدى إرنست غيلنر التي تنطلق من مقولة أن القومية ظاهرة حديثة ولا تمتد في التاريخ ولا في العلوم الاجتماعية إلى فترات تسبق تأسيس الدولة القومية الحديثة، فالمجتمعات تحولت من المجتمع الزراعي (المحراث) إلى المجتمع الصناعي (السيف) إلى المجتمع الكتابي (القلم)؛ وفي المجتمع الكتابي أضحت الكتابة وسيلة للتوحيد القومي عبر ابتكار رأس المال الطباعي (إنتاج المواد القومية والكتابية بشكل سريع وكثيف). ومن الضروري للجماعات القومية وفق مجادلة الشيخ "أن تحول وعيها بذاتها إلى حكاية مكتوبة وملئية بالأساطير القادرة على جمع هذه الأمة ضمن أيديووجيا تحددها الحركة السياسية القادرة على تحويل الوجود بلا عقد سياسي أو اجتماعي إلى وجود بالقوة ضمن دولة. وعليه، فإن تحويل السيرة الوطنية أو القومية من قصص فردية إلى قصة جماعية، هو شرط ضروري لتبلور الأمة وعقيدتها القومية قبل أن ينفرط عقد الأمة وتصير الرابطة القومية صنو الأيديولوجيا".

أما نظرية كليفورد غيرتز حول سياسات القومية في السياق ما بعد الاستعماري في الدول الجديدة؛ أي الدول خارج المركز الأوروبي فيقسمها غيرتز إلى أربع مراحل هي: مرحلة انوجاد الحركة الوطنية وتكونها، ومرحلة انتصارها، ومرحلة التحول نحو الدولة وتنظيمها، ومرحلة تمكين الدولة وبناء علاقاتها مع محيطها والتعامل مع الجماعات والأقليات العرقية داخلها.

يتعبر هذا المساق من المساقات الجامعية القليلة والنادرة في فلسطين التي تدرس مثل هذه القضايا، على الرغم من أهميتها وضرورتها المعرفية والسياسية والثقافية والتاريخية. ومن المتوقع أن يهيكل المساق وعيًا معرفيًا ونقديًا اتجاه النظريات القومية وسياسات الهوية، وفك السحر عن سياسات الذاكرة وسياسات النسيان، ويعيد تقويم السجالات المعرفية والسياسية والثقافوية حول الهوية الفلسطينية وسياساتها، وحول المسألة اليهودية كمنتج حداثي أوروبي بامتياز ابتدعته أوروبا البيضاء في ذروة حداثتها إبان فشل مشروع الاستنارة الأوروبي الحداثوي.


اقرأ/ي أيضًا:

الاحتلال والمراهنة على الوقت في حلّ أزمة غزة

في نقض التصوُّف الوطني

عزمي بشارة: ترييف الوعي الوطني