الوجهُ الأوّل،
في روايته "الخلود"، يجلبُ كونديرا كلًّا من همنغواي الروائي الأمريكي، والشاعر الألماني غوتة، يتمشَّيان معًا، ويتذمّران معًا من خلودهما، في أروقة الغيب. يشكو همنغواي خلوده لغوته قائلًا: "كما تعلم يا جوهان، لم أسلم أنا أيضًا من اتهاماتهم. فعوَض أن يقرؤوا كتبي، راحوا يؤلفون عنّي!"، ويردُّ عليه غوته الموقّر الهادئ قائلاً: "وماذا تريد، إنّه الخلود. الخلود محاكمة أبديّة"، "ولكن إذا كان محاكمة أبديّة، فيلزم قاضٍ حقيقيّ"، يشكو همنغواي ويسترسل: "لا معلّمة قرية تتأبّط سوطًا"، "معلّمة قريّة تتأبّط سوطًا، هذا هو الخلود الأبديّ! ماذا تخيّلت أيضًا يا إرنست؟" يردُّ عليه غوته، ربما متثائبًا، ويجيب همنغواي العجوز: "لم أتخيّل شيئًا! كل ما كنت أتمناه هو أن أعيش بعد مماتي في سكينة". "لقد قمت بكلّ ما يلزم لتصير خالدًا.."، يؤكِّد غوته عليه، ويردُّ همنغواي غاضبًا: "هراء! كل ما فعلت هو أنّني ألّفت كتبًا"، "هو ذا بالضبط!"، يردُّ عليه غوته مقهقهًا.
وبعد جدالٍ طويل بينهما، يرتعشُ همنغواي في خلوده، ويمسك غوته بيديه ويقصُّ عليه قصّة تريحه من عناء البحث عن إجابة تشفي صدره. يقصُّ عليه أنّه رأى حلمًا ذات مرّة، حلمًا فيه يكون غوته خلف الخشبة في مسرح عرائس، وهو يقوم بتحريك الدمى في مسرحيّة فاوست، المسرحية التي كتبها هو! ثمّ إذا به ينظر إلى قاعة المتفرّجين فيجدها خالية، ويبحثُ عن الحضور فلا يجدهم، ويتساءل إن كانت المسرحية لا تستحقُّ ولو صفيرًا، ثمّ إذا به يجد المتفرجين يقفون خلفه، خلف الخشبة! إنهم ينظرون إليه، يحدّقون به وينظرون إليه بفضول وقد جحظت أعينهم، فأدرك عندئذ أنّ ما كانوا يرنون إلى مشاهدته ليس المسرحية، بل هو، غوته بلحمه وشخصه، ليس فاوست، بل غوته. آنذاك قفل غوته عائدًا إلى بيته وهو يشعر بالاشمئزاز، وعندما عاد إلى البيت، دخل إليه وأقفل الباب، وأشعل مصباح الزيت وهو يشعر بالراحة أنّه ارتاح من أعينهم المتطفِّلة، لكنّه ما أن رفع رأسه عن الأرض حتى رأى أبصارهم شاخصة في شخصه! فأدرك أنّه محاصرٌ لا محالة، ولكنّه أيضًا عاجزٌ عن الإتيان بأيّ فعل من شأنه إقناعهم أنّه لا يرغب برؤيتهم له هو، هو غوته الإنسان، ولكنّ الأبصار ظلّت شاخصة، وآنذاك، كالطفل الصغير اندسّ غوته في فراشه وهو يلفُّ غطاء السرير على رأسه ملتصقًا بالجدار.
الأفعال التي قد تجعل المرء منّا يختبر بعض أنواع الخلود بعد موتهِ كثيرة ومتنوّعة، وليس آخرها الكتابة، وليس أوّلها الاستشهاد
مرةً حذّرني صديق لي من استهتاري أحيانًا إزاء عدم تعديل نصوصي المنشورة على الإنترنت، محذّرًا إياي قال: "الإنترنت هو الأرشيف الحقيقيُّ اليوم. كل ما تكتبهُ في لحظة قد يقدّم ضدّك في محكمة.."، أظنّه كان يقصد محكمة الخلود هذه. وقد أراعني فعلٌ قام به بعض من الذين أعرفهم ولا أعرفهم. ومن المثير للذعر أن لا يطمئن الميتُ في قبره، أن ينعم ببعض السلام والطمأنينة، ومن المفزع أن لا يأمن الإنسان على نفسه من تطفُّل الآخرين واعتقادهم بأنّهم يملكونه بعد موتهِ ويملكون التصرُّف فيه كما يشاؤون. هذا شأن غوته، وهذا شأنُ همنغواي. إلَّا أن الأفعال التي قد تجعل المرء منّا يختبر بعض أنواع الخلود بعد موتهِ كثيرة ومتنوّعة، وليس آخرها الكتابة، وليس أوّلها الاستشهاد. لكنّ من يقوم بفعلِ الكتابة، كمن يستشهدُ، كم يؤلِّفُ الموسيقى العبقرية، هو الإنسان في نهاية المطاف، وهو الإنسانُ نفسه الذي لا أعتقدُ، طبقًا لشكوى كونديرا نفسه وصاحبيه غوته وهمنغواي، لا أعتقدُ أنّه يرغب في أن يُجرَّد من إنسانيته، بتصنيمه حينًا، وهدمِ الصنم حينًا آخر، أو على شاكلة غوته وهمنغواي، في هجر إرثهِ الحقيقيّ، والتعلُّق بمنشوراته الإلكترونيّة، تلك التي لم يرها يومًا تستحقُّ أن تجمع في كتاب وإلّا لفعل.
الآن يعمدُ البعضُ إلى نمطٍ من الكتابة والتفكير، في الشهداء وحولهم، نمط هو أقربُ إلى التصوُّف في الإرثِ غير المتّصل بفعل الشهيد نفسه كفكرة، وربّما هو متصلٌ، ولكنّه رحلةُ إنسان بأخطائها وبصوابها، رحلة يجبُ أن تصان بالنسيان، لا أن تصان بالسعي الحثيثِ إلى إعادة خلقها كنصوص استثنائيّة لمجرّد أنّها كتبت بواسطةِ الشهيد.
يعيدنا هذا النمط إلى نمطٍ قديم وسابقٍ يتجدّد في نمط التصوف الوطني هذا، ألا وهو التصوُّف اليساريّ في شخص غسّان كنفاني. لقد قاد هذا التصوّف اليساري، في شخص كنفاني، وفي شخص جورج حبش، وربّما آخرين، إلى اعتبار ما هو عاديّ، بمنزلة غير العاديّ، وإلى اعتبار ما هو مانيفستو ثوريّ بمنزلة الأدب الرفيع، وقد شاع استخدام الأدب الملتزم، حتى أثّر هذا المفهوم على عدد هائل من الكتابات اللاحقة على استشهاد كنفاني، وقيَّدها وجعلَها تقصُر عن المعنى والبلاغة معًا، فقط لتوخِّي عدم الانجرار وراء ما هو "أدب برجوازيّ غير مفهوم". لقد نوقش هذا الأمر طويلًا بواسطة من هم أخبَرُ وأقدَر مني على نقاشه، لكنِّي أعود إليه في هذا النصِّ، كمثالٍ على ما هو في طورِ التشكُّل الآن، فيما يشبهُ تصوُّفًا وطنيًا يساريًا، حول شخصِ بعض الشهداء، منتجين بذلك، مفاهيمًا هي الأخرى تحدِّدُ وتقيِّدُ وتمنعُ وتُلغِي وترفع وتُنزِلُ وتهدِمُ وتُشيِّدُ، أنماطًا من الكتابة والفعل والقول، متحلِّقين حول بعضهم البعض، وفي ذلك، هم يقيمون محكمة أبديّة لخلود الشهداء، يختصُّ قضاتها في أسطَرَةِ الشهداء وإرثهم، وربما إلغاء بعضهِ وإعادة إنتاج ليسَ الحقيقة وحسب، بَل إعادة إنتاج الشهداء أنفسهم في الذاكرة في صورة معدّة مسبقًا، وأيضًا، ينسِبون لأنفسهم الوصاية على الذاكرة.
الوجه الثاني،
يقرأ البعضُ جبرا إبراهيم جبرا، أو محمود درويش، أو إميل حبيبي، ويشاهد الآخرون أفلامًا لإيليا سليمان، وفي ذهنهم سؤالٌ واحد: "هل حقًا هناك ما هو شبيهٌ بما يكتبه جبرا أو يصوِّره سليمان، في مجتمعاتنا؟"، وكأنّ سليمان وجبرا وحبيبي ودرويش، هم طارئون على مجتمعاتهم، لا يعرفونها كما يعرفها الغرباء المتصوِّفون، الأوصياء على ذاكرتنا الجمعيّة.
كتبتُ في جدالٍ قبل شهورٍ مع صديق حول العمليات الفرديّة: "أنّ لكل شعبٍ أسطورة، ولولا هذه الأسطَرَة لما كان لأيّ شعب ذاكرة، ولما كان على الشعب أن يحرس ورد الشهداء.. وإذا كانت إحدى طرق نجاة الذاكرة الفلسطينيّة وبقائها في هذه الأيّام، هي في أسطَرة الشهداء.. فليكن". آنذاك لم أدرك، أنّ ما يجري وربّما سيظلُ إلى حين جاريًا، هو عمليّة صناعة ذاكرة وتخليدها بواسطةِ أشخاصٍ بعينهم، يرون في أنفسهم أوصياء على الذاكرة كما يرون في أنفسهم أوصياء على الشهداء أنفسهم. إن الفارق بين الأسطَرة الشعبيّة، التي تجرِي عبرَ مئات وآلاف الطرق والوسائط من جيلٍ إلى جيل، أنَّها تنتج ذاكرة جمعيّة ولها دورُها المحوريُّ في المتخيَّل الوطنيّ حول جماعة وطنيّة – قوميّة، أمّا تلك الأسطَرَة التي تتمّ بتوجيهٍ، فهِي تنتجُ جماعةً سياسيّة/ فكريّة، هي الأخطَرُ على الذاكرة الجمعيّة من أيِّ ثقافة طارئة.
لن يستطيع كتابة سيرة الغائب الحاضر، سوى الغائب الحاضرِ نفسه
فمن خلالِ الوصاية على الذاكرة، يتراجع شخوص جبرا وحبيبي وسليمان عن أن يكونوا شخصيّات حيّة في المجتمع المحليّ، وتصبح هذه الشخصيات طارئة على الواقع، مغتربة عن واقعها ومجتمعها، وقد توصمُ بثقافة المستعمِر، وقد توصم بثقافة استشراقيّة. وتتقدّم شخصيّات أخرى، لا خطأ في تاريخها الشخصيّ، لا رغبات كأيٍّ فينا، لا شيءَ فيهم يُشبهُ البشر العاديين، وهم منَّا براء ونحنُ إلَيهم "نتوقُ" حالمين بالمثاليّة التي تمّ تألِيفُهم على هيئتها، ويُصبحُ ما كان منهم من خطأ هو الصوابُ بعد حين، وقليلًا قليلًا، تنتجُ الصوفيّة الوطنيّة مولاها الذي ربّما لن ينعم بسلامهِ الأبديّ في أبديّته أبدًا، حائزةً على القدرة منهُ على إنتاج الحقيقة وإعادة إنتاجها، ووصمِ كلِّ ما هُو مخالفٌ لها على أنّه طارئٌ استعماريّ.
في النهاية، وأيًا كان ما سيكونُ من أمرِ التصوّف الوطنيّ وأنماطه الآخذة بالشيوع، فإني أعودُ إلى ما بدأتُ بهِ، غوته وهمنغواي، ومحاكمة الخلود الأبديّة، ومعلمة القرية والسوط الذي في يدها. كتبتُ قبلَ أسابيع، أنّ أحدًا لن يستطيع كتابة سيرة الغائب الحاضر، سوى الغائب الحاضرِ نفسه، وأنّ أحدًا كذلك، لا يملكُ الحقّ بالتطفُّل على حياتهِ الشخصيّة، كما أنّ أحدًا لا يملكُ الحقّ على أنْ يؤلِّفهُ كما يشاءُ له أن يؤلِّفه، وهو لا يزالُ بعدُ غائبًا حاضرًا.
اقرأ/ي أيضًا:
سياسات صنع العدو: قراءة في كتاب بيار كونيسا