"كوني ما تشائين، فقد أيقظت فينا ما كان راكدًا بفعل القعود الطويل، وتهرّب البعض من امتشاق الحسام، والفرار من تكسر النصّال على النصال، فجئتِ أنت بصفعة كفٍّ قويّ لتعرّي كل الخانعين الخائفين المرتجفين، تحت وهم السلام"، بهذه الكلمات كتب طلعت إسماعيل، عن الفتاة الفلسطينية المعتقلة لدى الاحتلال، عهد التميمي التي تتصدّر عناوين الأخبار منذ أيّام.
فيما يلي، ترجمة لمقال نشره موقع "The Nation" عن الفتاة الفلسطينية، التي وصفها بأنّها أيقونة الجيل الفلسطيني الشاب، المقاوم:
كانت لتكون أفضل حالًا لو عاشت حياتها كطفلة عاديّة. كانت عهد التميمي تبلغ (11 عامًا) عندما قابلتها، فتاة صغيرة شقراء نحيفة، شعرها تقريبًا أكبر مما كانت عليه.
أتذكر" كشرة" وجهها عندما كانت أمّها تمشّط عُقد شعرها كل صباح في حجرة معيشتهم. وفي المرة الثانية التي اشتركت فيها في مظاهرة ببلدة النبي صالح، القرية الواقعة في الضفة الغربية، انتهى الحال بعهد وابنة عمّها مرح على رأس المسيرة. ليس لأنهما أرادتا ذلك، بل لأن جنود الاحتلال كانوا يطاردون الجميع، ويصيحون ويلقون القنابل الصوتية، ومن ثم، هرعت هي ومرح إلى مقدمة الحشد. ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا دأبها.
اتركوها لتحيا كطفلة. حاربوا لكي تحرروها، حتى يتسنى لها أن تصبح يومًا ما، امرأةً عادية، في أرض عادية
يواصل الجيش الإسرائيلي اقتحاماته للقرية، وساحات المنازل، والمنزل، بل وأجساد وجماجم وعظام عائلتها وأصدقائها، لينتهي المقام بعهد في المقدمة حيث بوسع الجميع أن يراها. لقد ظهرت هناك من جديد الأسبوع الماضي، بعد انتشار مقطع فيديو لها وهي تصفع جنديًا إسرائيليًا.
أكاد أؤكد لكم أنّها ليست حيث تريد أن تكون. فهي تودّ لو كانت برفقة أصدقائها بدلًا من ذلك، بينما يستخدمون هواتفهم للقيام بالأمور التي يفعلها المراهقون. إنّها تود لو تكون طفلة بدلًا من أن تكون بطلة.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | احتفاء إسرائيلي بالانتقام من الطفلة عهد
لقد قابلت عهد قبل فترة وجيزة من انتشار صورتها الأولى في جميع أنحاء العالم. في تلك الصورة، كانت ترفع ذراعها النحيف العاري، وتلوّح بقبضتها في وجه جندي إسرائيلي بضعف حجمها. فقد ألقى رفاق هذا الجندي القبض على شقيقها للتو. وبين عشية وضحاها، أصبحت عهد منذ ذلك الحين برغم حداثة سنها، رمزًا للمقاومة.
تواصلت المظاهرات في بلدة النبي صالح للعام الثالث آنذاك. إذ قام المستوطنون بمصادرة عين ماء في الوادي بين القرية ومستوطنة "حلميش"، وقد انضمت بلدة النبي صالح إلى ركب المقاومة إلى جانب عدد من القرى المجاورة الأخرى، التي اختارت طريق المقاومة غير المسلحة، والتي دأبت على تنظيم المسيرات الاحتجاجية ضد الاحتلال كل جمعة، وبمرور أسبوع تلو الآخر. استُشهد مصطفى التميمي، ابن عم عهد، بعد أن أُصيب في وجهه بقنبلة مسيلة للدموع، أُطلقت من سيارة جيب عسكرية إسرائيلية. أمّا خالها رشدي التميمي، فقد أصيب إصابة بالغة بعد عدة أشهر،أودت بحياته. ففي تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2012، أطلق جندي إسرائيلي النار على ظهره أسفل الوادي، بالقرب من منزل عهد. لم يكن هناك أمر غير عادي في كل ذلك في حقيقة الأمر، غير أن القرية الصغيرة لم تتوقف. وعلى الرغم من ارتفاع عدد الخسائر، إلا أنهم استمروا في إطلاق المسيرات كل يوم جمعة إلى الأراضي المصادرة. إلا أنهم تقريبًا لم يقتربوا من هذه المنطقة أبدًا. فكل يوم جمعة، قبل أن يصلوا إلى الطريق المؤدي إلى تلك المنطقة، يصدهم جنود الاحتلال بقنابل الغاز المسيل للدموع، وغيرها من الأعيرة النارية المختلفة. كما أنّ جنود الجيش الإسرائيلي يأتون خلال الأسبوع أيضًا، عادة قبل الفجر، من أجل الاعتقالات، وتفتيش المنازل، ونشر الذعر، وإيصال رسالة تزداد وضوحًا مع الوقت، مفادها أنّ حياتك، وبيتك، وأرضك، حتى جسدك أنت وأجساد أطفالك، لا شيء منهم يخصك.
جاء الجنود الإسرائيليون الأسبوع الماضي من أجل اعتقال عهد. من الصعب عليّ استيعاب هذا الأمر حتى الآن، فلم أكن أتوقع أن يحدث هذا لها على الإطلاق. ظننت أنها ستتفادى ذلك، وسيتسنى لها إنهاء دراستها، وستذهب إلى الجامعة، ومن ثم تصبح امرأةً جريئة رائعة بكل تأكيد يومًا ما. توقعت أن شقيقها أو أبناء عمومتها ربما يدخلون السجن في وقت ما -وقد حدث ذلك بالفعل لمعظمهم-، كما تعرّض بعضهم للإصابة أو ما هو أسوأ من ذلك. فكل مرة أزور فيها بلدة النبي صالح، وأنظر في وجوه الأطفال، أحاول ألا أسأل نفسي، على من الدور القادم؟ وإلى أي مدى سيكون الأمر سيئًا؟
منذ أسبوعين، وقبل أسبوع واحد من طرد عهد للجنود من ساحة منزلها، أُصيب ابن عمها محمد، أحد أقرب أصدقاء شقيقها الصغير. إذ أطلق عليه جندي إسرائيلي النار في وجهه. فاخترقت الرصاصة -رصاص مغطى بالمطاط، ولكنه رصاص على أية حال- جمجمته. وبعد مرور أسبوع، كان لايزال في غيبوبة مستحثة طبيًا جرّاء الإصابة.
إذا كنت قد شاهدت الفيديو الذي تسبب في اعتقالها، ربما تساءلت عن السبب الذي أشعل غضب عهد في وجه الجنود الذين اقتحموا باحة منزلها، لماذا كانت تصرخ فيهم حتى يغادروا؟ لماذا كانت تصفع وجوههم؟ هذا هو السبب. بالإضافة إلى الآلاف من الأسباب الأخرى. لقد قُتل عمها وابن عمها. وأُصيبت والدتها بطلق ناري في ساقها، وظلّت تستعمل العكازات قرابة العام. وأُخذ منها والديها وأخوها لعدة أشهر في كل مرة. ولم تحظ بليلة هادئة على الإطلاق، دون احتمال استيقاظها على حدث مثل الذي وقع في وقت مبكر من يوم الثلاثاء، والذي حدث قبل ذلك مرات عديدة، مجموعة من الجنود على باب منزلها، يقتحمون المنزل، ويقتحمون غرفتها من أجل اقتياد أي شخص هناك.
رغم قوتهم ونفوذهم وثروتهم وغطرستهم، أشعرتهم عهد جميعًا بالمهانة
لم أكن أتوقّع هذا الكم المذهل من الخوف لدى الجمهور الإسرائيلي، أو أن يثير هذا الفيديو الذي يظهر شجاعة عهد عندما صفعت الجندي الإسرائيلي على وجهه لطرده من ساحة منزلها، كل هذه العصبية القبيحة. لم تُعتقل عهد التميمي لأنها خالفت القانون، الذي فرضته إسرائيل على الأرض التي تحتلها، وتظهر قليلًا من احترامه. وإنما اُعتقلت لأنها ظهرت في جميع النشرات الإخبارية، وطالب العامة والساسة جميعًا بمعاقبتها. لقد استخدموا كلمات من قبيل "واهنون" و"عاجزون" لوصف شعورهم عندما شاهدوا الجندي بخوذته ودرعه وسلاحه، في مواجهة طفلة ترتدي قميصًا ورديًا، وسترة زرقاء، ما سبب لهم الخزي والمهانة. فعلى الرغم من قوتهم ونفوذهم وثروتهم وغطرستهم، أشعرتهم عهد جميعًا بالمهانة.
إنّ الفجوة بين الفكرتين المتعارضتين الخياليتين اللتين تحددان صورة إسرائيل الذاتية، اتسعت على مرّ السنين، دولة لا تزال تصوّر نفسها على أنها داوود- النبيل والشجاع والذي يفوقه أعداؤه عددًا- الذي يقاتل جالوت العربي، بينما تتباهى بالقوة والتطور الفائق الذي يحظى به جيشها. تسببت عهد في انهيار هاتين القناعتين. فقد كشفت من جديد للعالم أن إسرائيل هي التي ترهب الفلسطينيين. وبمشاهدة هذا الفيديو، عرفوا أن أسلحتهم لا قيمة لها، وأنها عار عليهم. ومن أجل كشف هذه الحقيقة، وإظهار ضعفهم وخوفهم أمام العالم، كان يجب ان تُعاقب عهد. ولذا نزل وزير الجيش "ليبرمان" في الدولة التي تمتلك جيشًا هو الأكثر تقدمًا تكنولوجيًا في العالم عن عرشه، ليعد شخصيًا بأن ليس عهد ووالديها فقط، بل "كل من يحيطون بهم"، سوف يحصلون "على ما يستحقون". وكان وزير التعليم أكثر تحديدًا عندما قال "يجب أن تُسجن عهد مدى الحياة، لفظاعة الجرم الذي ارتكبته".
لقد اعتقلوا عهد، ووالدتها ناريمان، وابن عمها نور، الذي ظهر أيضًا في الفيديو. اعتقلوا ناريمان عندما ذهبت إلى مركز الشرطة لتطمئن على ابنتها، بينما عادوا في اليوم التالي لاعتقال نور. في غضون ذلك، عمل مروجو الدعاية بشكل حثيث لنشر الأكاذيب، بأنّ عهد ليست طفلة، وأنّها ليست فلسطينية، وأن التميميين ليسوا أسرة واحدة، وأنهم إرهابيون، وأن كل ذلك ليس حقيقي، وأن الاحتلال ليس احتلالًا، وأن ما رأيته في الفيديو ما هو إلا تمثيل مسرحي للأجانب من أجل إظهار إسرائيل بمظهر سيء. إن أي شيء أسهل في التقبّل عدا الحقيقة، حقيقة أن عهد كشفت حقيقتهم، وكيف أن خمسة عقود من الاحتلال كانت هباءً في تكوين دولتهم، وكيف أصبحوا أكثر ضعفًا ورعبًا يومًا بعد يوم.
رجاءً، لا تجعلوا من عهد بطلة. فالأبطال عندما يكونوا فلسطينيين، ينتهي بهم المآل إمّا إلى القتل أو خلف القضبان. اتركوها لتحيا كطفلة. حاربوا لكي تحرروها، حتى يتسنى لها أن تصبح يومًا ما، امرأةً عادية، في أرض عادية.
اقرأ/ ي أيضًا:
فيديو | من مسافة صفر.. حجارة شاب تقهر جنود الاحتلال