ما إن ينتصف أيلول، حتى تستجمع العائلة الفلسطينية كل طاقاتها إيذانًا بحصاد "الذهب الأخضر". فإذا "صلّب الصليب ما بأمِن للصبيب"، إذ يُعتقد أن الزيتون يبلغ حينها أقصى حدٍ من سيلان الزيت ولا جدوى من تأجيل قطفه. لذا ما إن ينتصف أيلول حتى يُعلن الثمانيني محمد سلمان عرفات حلول العيد الثالث في السنة، خوفًا من ضياع ذهب أشجاره التي ورثها عن والده واعتنى بها منذ طفولته على مدى عقود.
"وإذا صلّب الصليب كان يروّح الغريب" يقول عرفات ذلك مستذكرًا بيارة والده التي كانت تُشبه المضافة، يحل عليها "غرباءُ" ينصبون فيها خيامًا ويبيتون فيها عدة ليالي كاستراحة مسافر، أو لقضاء مصالح، ثم إذا حل النصف من أيلول أعلن والده سلمان عرفات انتهاء الصيف وحلول الخريف، فيغادر "الغرباء" ويبدأ أهل الأرض قطف الزيتون قبل دخول موسم الأمطار.
مسنون يتحدثون لـ الترا فلسطين عن موسم الزيتون أيام زمان
زيارتنا للحاج محمد عرفات أتت في سياق بحثنا عن "كيف كان موسم قطف الزيتون أيام زمان؟". يقول عرفات إن المدارس كانت تُعطَّل ليجتمع الأولاد ويجهزوا رحالهم والعُصي والشوادر والدُلي، أما النساء فالمهمّة الكبرى لهّن كانت إعداد الطعام للرحلة اليومية التي كانت تبدأ مع بزوغ الفجر إلى ما بعد غروب الشمس.
ويحكي عرفات أنه "بعد منتصف أيلول ما في صيفيات، وبعض الأهل كانوا يبدأون الموسم في 27 أيلول، حسب نوع زيتونهم. كنا نعطّل عن المدارس كما نعطّل اليوم في الأعياد، نصلي الفجر ونشد عزالنا إلى الأرض مع والديْنا وأعمامنا".
يذكر التفاصيل ضاحكًا مستبشرًا بخير الـ150 شجرة التي يمتلكها قرب منطقة الشيخ عجلين بمدينة غزة. يقول: "كنا 15 رجل وامرأة، نأخذ فطورنا معنا، نبدأ قبل أن تحمى أشعة الشمس بجرد الزيتون جرد، ما كان في سلالم أو أدوات، كنا نتسلق لأعلى الشجرة وبالعصى نُنزل حبات الزيتون من أعلاها".
ويضيف، "كانت أمي تجهّز الإفطار حوالي الساعة الثامنة فأنزل من أعلى الشجرة. كان هذا أيام المصريين قبل سنة الـ67 ما كان عندنا يهود، المهم في تلك الأيام كانت اللمّة الحلوة كنا نتعب لكن تعبنا في الأرض زي العسل على قلوبنا".
يُبين عرفات أنه قَطَفَ الزيتون في غزة، وبعض السنوات في الناصرة والجليل شمال فلسطين، وفي الجولان، موضحًا أن ذهابه إلى تلك المناطق كان لمشاركة معارف والده هناك في قطف الزيتون، "فعيدهم مثل عيدنا" وفق قوله.
عائشة الآغا (94 عاما) من خان يونس جنوب قطاع غزة، تستعيد ماضيها تحت شجرات الزيتون "يوم أن كانت صحتي كالجبل، كنت أساعد أبي وإخوتي في الأرض، اليوم يكفيني حمد الله أن بارك بشجراتي وتدر ذهبًا".
وتُضيف، "شجر الزيتون سنة إلك وسنة عليك، تعطي خير كثير وسنة تريّح، لكن حتى أيام زمان كان القليل منها كثير بالنسبة لهالأيام، فالشجرة الحبة فيها تكون مليانة. اليوم ما تعرفي مال الزيتون ياستي ما حد بهتم فيه مثل زمان".
تنهدّت قبل أن تستذكر موَّالاً كانت تغنيه أيام البلاد، ثم قالت: "راحت أيام راحة البال، كنا نجتمع تحت ظل أكبر شجرات الزيتون نفطّر زيت وزعتر وزيتون ونشرب الشاي من على نار الحطب بعد ما نقلي قلاية البندورة مع البيض عليها".
"كنا نغني ونرقص، نجتمع من الصبح نستريح بنصف النهار نموّل أو نأخذ قيلولة، كنت أنا وأخي الكبير نتسابق بين شجر الزيتون العصريات"، قالتها ثم دخلت في موجة ضحكِ شديدة فضّلت أن تحتفظ بسببها لنفسها، لكن الأحفاد من حولها ركبوا الموجة وضحكوا لضحكاتها، قبل أن تُنهي حديثها بطلب فنجاة قهوة "يعدِل راسي" وفق تعبيرها.
"الزيتون والزيت عمود البيت"، لذا لا يخلو منزل الثمانيني محمد أبو عامر منهما طوال العام، وكل هذا من خير أشجار الزيتون المزروعة حول منزله منذ أكثر من 50 عامًا. يقول عن زيتون زمان: "كان الخير فيه كعيد اللحمة بالنسبة للفقير - يقصد عيد الأضحى - كانت وجبة الغداء كالعزومة لأن القرايب والجيران والمعارف كانوا يساعدوننا في القطف دون أجر".
ولا ينسى أبو عامر أن النساء في موسم الزيتون كُنَّ يطبخن "المسخن والفتة مع الديوك البلدي وخبز الصاج، وكل هذا تحت ظلال شجر الزيتون". ويُشير أبو عامر إلى بعض "طيّبات زيت الزيتون" قائلاً: "ادهن ابنك بزيت وارميه في البيت، وكل زيت وناطح الحيط"، وهو يقصد بذلك عِظَمَ فوائد الزيتون للصحة.
ويُضيف، "كل أكلي من زيت الزيتون، تبارك الله فيه نخزّن الزيت ويظل البيت عامرًا به للموسم الجاي".
وحددت وزارعة الزراعة يوم 12 تشرين الأول/أكتوبر المقبل موعدًا لافتتاح موسم قطف الزيتون وتشغيل المعاصر، أما أصناف الزيتون من نوع السمسم النبالي المحسن وK18، فقد تم تحديد قطفها في نهاية تشرين الأول. لكن كثيرًا من الفلاحين في غزة والضفة الغربية لم ينتظروا الموعد المقرر، فدفعهم خوفهم من سقوط الحب عن الأشجار إلى القطف باكرًا، مستندين إلى درايتهم بطبيعة أشجارهم وما تحمله كل عام.
اقرأ/ي أيضًا: